ومما ورد في حب الله

ومما ورد في حب الله تعالى :

قال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.

وفي بعض الكتب: عبدي أنا -وحقك - لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.

وقال يحيى بن معاذ:

إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتَهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك وأنا صغير، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.

وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به.


أحب الأعمال إلى الله

( أحب الأعمال إلى الله }
1 - أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
2- أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله .
3 - أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله .
4 - أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم .
5- أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور ٌ تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهرًا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضيً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزول الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
6- يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل .
{ هذه الأحاديث من تخريج السيوطي وتحقيق الألباني }

الأربعاء، 28 يوليو 2010

تأملات في آيات الصيام

بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في آيات الصيام :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) .أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184 شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) .
تظهر رحمات الله في هذه الآيات كما يلي :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا : نداء للمؤمنين بالصفة التي يحبهم من أجلها , يليه تكليف يرقيهم به ويعلي شأنهم بالإمساك عن الطعام والشهوة , وتضييق مسالك الشيطان , وتزكبة النفس ؛ ليكونوا من المتقين .يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) .مما يخفف على المسلم أمر الصيام أنه لم يفرض علينا وحدنا يل كتب على الذين من قبلنا , فلسنا أول من يكلف بهذه العبادة .وفيه أيضًا دعوة للمنافسة ليكون أداء المسلمين للصيام أكمل ممن قبلهم .ولعل تفيد الرجاء من الأدنى إلى من هو أعلى . وكأن المعنى : صومو ا وارجوا من وراء الصيام التقوى .
وإذا جاءت لعل من الأعلى إلى الأدني فهي للتحقيق . وكأن المعنى : من صام ابتغاء مرضاة الله فسوف ينال التقوى بلا شك .أيامًا معدودات : فمن باب التيسير أنها ليست كثيرة ؛ بل هي أيام معدودات .فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر : فالشارع الحكيم يقبل أعذار الناس قبل أن يوجه إليهم التكليف .
( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) .بيان لفضل الشهر الكريم وسبب فضله وهو نزول القرآن العظيم وما فيه من الهداية والرشاد لصالح الإنسان والعباد .وفي هذا رفع للهمم ودفع للنفوس للإقبال على عبادة الصيام .ولذلك جاء بعدها (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) .
( فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) أعاد الرخصة مرة أخرى حتى لا يظن أنها نسخت ؛ توكيدا للتيسير ..وكذلك ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) تأكيد على سهولة التكليف .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) .عبادي : فيها إضافة المخلوقين إليه سبحانه وفي هذا من التكريم ما فيه .وهو سبحانه قريب : بتأكيد الجملة الإسمية وإنّ , يجيب الدعاء ويتودد إلى العباد. وقالوا ليس العجب من فقير يتحبب , إنما العجب من غني يتودد .( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ... علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ) .
خفف الله عن المؤمنين وسمح لهم بذلك , ولكن القرآن عبر عنه بلفظ الرفث وفيه من القبح ما فيه وكذلك تختانون ؛ لاستقباح هذا الفعل منهم قبل الإباحة .وتتجلى رحمة الله والقرآن يتنزل على المكلفين الذين يشعرون بالحرج في قوله سبحانه : ( فتاب عليكم وعفا عنكم ) فتطمئن القلوب وترتاح النفوس .وماذا تقول أنت بعد قوله سبحانه ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ) .كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) . تبدأ الآيات بالتقوى وتنتهي بها و تؤكد عليها وتذكر بها ؛ وكأنها هي الأفق المطلوب الوصول إليه .
وعلى الله قصد السبيل .
Hudahuda2007@ yahoo.com

رمضان شهر الجود والقرآن



من كلام الحافظ ابن رجب الحنبلي بتصرف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .. وبعد :
عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلّم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة )) [ رواه البخاري ومسلم ] 0

رمضان شهر الجود والإحسان
الجود هو سعة العطاء وكثرته ، والله تعالى يوصف بالجود وفي الأثر المشهور عن الفضيل بن عياض ، قال : (( إن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا الجواد ومني الجود ، أنا الكريم ومني الكرم )) فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين ، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة ، كشهر رمضان ، وفيه أُنزل قوله تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ البقرة : 186 ] 0

جود النبي صلى الله عليه وسلّم
لما كان الله عز وجل قد جبل نبيه صلى الله عليه وسلّم على أكمل الأخلاق وأشرفها ، كما في حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أجود الناس كلهم ، وكان جوده بجميع أنواع الجود ، من بذل العلم والمال ، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده ، وإيصال النفع إليهم بكل طريق ؛ من إطعام جائعهم ، ووعظ جاهلهم ، وقضاء حوائجهم ، وتحمل أثقالهم 0
ولم يزل صلى الله عليه وسلّم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه : والله ، لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق 0 ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافاً كثيرة 0 وفي الصحيحين عن أنس ، قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحسن الناس ، وأشجع الناس ، وأجود الناس )) ، وفي صحيح مسلم عنه قال : (( ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : يا قوم ، أسلموا ؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة )) 0
وكان جوده صلى الله عليه وسلّم كله لله عز وجل ، وفي ابتغاء مرضاته ، فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج ، أو ينفقه في سبيل الله ، أو يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه 0
وكان صلى الله عليه وسلّم يؤثر على نفسه وأهله وأولاده ، فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر ، ويعيش في نفسه عيشة الفقراء ، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار ، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع 0
وكان جوده صلى الله عليه وسلّم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور ، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضاً ، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الريمة ، وكان على ذلك من قبل البعثة ، ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك ؛ فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام ، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم ، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه ، وهو أشرف الكتب وأفضلها ، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق 0
وقد كان هذا الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خلقاً ، بحيث يرضى لرضاه ، ويسخط لسخطه ، ويسارع إلى ما حث عليه ، ويمتنع مما زجر عنه ؛ فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر ؛ لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام ، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم ، الذي يحث على المكارم والجود 0
وقد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد ولا يصلح ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم :
تعود بسط الكف حتى لـو أنه ثناها لقبض لم تجبه أنامـــله
تراه ما جئته متهـــــللا كأنك تعطيه الذي أنت سائلـه
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف و الجود ساحله
و لو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليــتق الله سائلـه

فوائد الجود
وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلّم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة :
منها : شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه ، فعن أنس مرفوعاً : (( أفضل الصدقة صدقة في رمضان )) [ رواه الترمذي ] 0
ومنها : إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم ، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم ، كما أن من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه في أهله فقد غزا 0
ومنها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار ، لا سيما في ليلة القدر ، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء ، فمن ججاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل ؛ والجزاء من جنس العمل 0
ومنها : أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة ، كما في حديث علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : (( إن في الجنة غرفاً يري ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها )) قالوا : لمن يارسول الله ؟ قال : (( لم طيب الكلام ، وأطعم الطعامم ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام )) [ رواه الترمذي وأحمد ] 0
وهذه الخصال كلها تكون في رمضان ، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام ، والقيام والصدقة ، وطيب الكلام ؛ فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث 0 والصيام والصلاة والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل ؛ قال بعض السلف : الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق ، والصيام يوصله إلى باب الملك ، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك 0
ومنها : أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها ، وخصوصاً إن ضم إلى ذلك قيام الليل ، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال (( الصيام جنة )) [ رواه البخاري ومسلم والنسائي ] 0 وكان أبو الدرداء يقول : صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور ، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور ، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير 0
ومنها : أن الصيام لابد أن يقع فيه خلل ونقص ؛ وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه ، وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي ، ولهذ نهي أن يقول الرجل : صمت رمضان كله ، أو قمته كله 0 فالصدقة تجبر مافيه من القص والخلل ، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث 0
ومنها : أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله ، فإذا أعان الصائمين على التقوي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله ؛ وآثر بها ، أو واسى منها 0 ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر ؛ لأن الطعام يكون محبوباً له حينئذ ، فيواسي منه حتى يكون ممن أطعم الطعام على حبه ، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعامم و الشراب له ، فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها . وسئل بعض السلف : لم شرع الصيام ؟ قال : ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع 0
وجاء سائل إلى الإمام أحمد ، فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ، ثم طوى وأصبح صائماً ، وكان الحسن يطعم إخوانه وهو صائم تطوعاً ، ويجلس يروحهم وهم يأكلون 0 وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلوى وغيرها وهو صائم 0 سلام الله على تلك الأرواح 0 رحمة الله على تلك الأشباح 0 لم يبق منهم إلا أخبار وآثار 0 كم بين من يمنع الحق الواجب عليه وبين أهل الإيثار ! 0

رمضان شهر القرآن
شهر رمضان له خصوصية بالقرآن ، كما قال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 185] 0
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلّم : (( نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان )) [ رواه أحمد ] 0 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق : ((كان النبي صلى الله عليه وسلّم أجود الناس ، وكان أجود ما يون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة )) 0
دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان ، والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له ، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان 0
وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه وسلّم (( أنه أخبرها أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عم مرة ، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين )) وفي حديث ابن عباس : (( أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً ))[ رواه البخاري ومسلم ] 0 فدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن ليلاً ؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ، وتجتمع فيه الهمم ، ويتوطأ فيه القلب و اللسان على التدبر ، كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا } [ المزمل : 6 ] 0
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره ، وقد صل معه حذيفة ليلة في رمضان ، قال : فقرأ بالبقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران ن لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل 0 قال : فما صلى الركعتين حتى جاءه بلاب فآذنه بالصلاة [ رواه أحمد ] 0
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان ، فكان القاريء يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام ، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر 0

حال السلف مع القرآن في رمضان
كان بعض السلف يختم القرآن في قيام رمضان في كل ثلاث ليال ، وبعضهم في كل سبع ؛ منهم قتادى وبعضهم في كل عشر ؛ منهم أبو رجاء العطاردي 0
وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها ؛ كان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان ، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة ، وفي بقية الشهر في ثلاث ، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً ، وفي رمضان في كل ثلاث ، و في العشر الأواخر في كل ليلة ، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة ، وعن أبي حنيفة نحوه 0
قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف 0
وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك ، فأما في الأوقات المفضلة ، كشهر رمضان ، خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة ، كمكة ـ شرفها الله ـ لمن دخلها من غير أهلها ، فيستحب فيها تلاوة القرآن اغتناماً للزمان و المكان 0
ولكن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ختم القرآن في أقل من ثلاث ، ولم يثبت عن الصحابة أنهم ختموا في أقل من أسبوع .
وهذا هو الطريق الأحكم والسبيل الأقوم ؛ لكي يجد المؤمن مجالا للتدبر والتأثر .
بدليل أن الصحابة كانوا أكثر ورعا ، وأتقى قلوبا من التابعين .
فليس الأمر بكثرة العبادة ولكن الإيمان يزيد بالطاعة المؤثرة ، ولا يزيد بالطاعة على إطلاقها . والله أعلم .
واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام ، وجهاد بالليل على القيام ، فمن جمع بين هذين الجهادين ، ووفى بحقوقهما ، وصبر عليهما ، وُفي أجره بغير حساب 0قال كعب : ينادي يوم القيامة منادٍ : إن كل حارث يعطى بحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصيام ، يعطون أجورهم بغير حساب ، ويشفعان له أيضاً عند الله عز وجل 0

الصيام والقرآن يشفعان للعبد
عن عبدالله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : (( الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ؛ يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار . ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، فيشفعان )) [ رواه أحمد والطبراني ] 0
فالصيام يشفع لمن منعه الطعام و الشهوات المحرمة كلها / سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام ، والشراب ، والنكاح ومقدماتها ، أو لايختص به كشهوة فضول الكلام المحرم ، والنظر المحرم ، والسماع المحرم ، والكسب المحرم ، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة ، ويقول : يارب ، منعته شهواته ، فشفعني فيه . فهذا لمن حفظ صيامه ، ومنعه من شهواته . فأما من ضيع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير ـأن يضرب به وجه صاحبه ؛ ويقول له : ضيعك الله كما ضيعتني 0
وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل ، فإن من قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم رجلاً ، فقال : (( ذاك لا يتوسد القرآن )) [ رواه أحمد ] 0 يعني : لا ينام عليه فيصير له كالوسادة 0

ما يعرف به قارئ القرآن
قال ابن مسعود : ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون ، وبنهاره إذا الناس يفطرون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون0
وقال محمد بن كعب : كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه 0 يشير إلى سهره وطول تهجده 0
وأنشد ذو النون :
منـع القرآن بوعده ووعيده مقل العيـون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه فهما تذل له الرقاب و تخضع

فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار ، فإنه ينتصب القرآن له خصماً ، يطالبه بحقوقه التي ضيعها . وخرج الإمام أحمد من حديث سمرة : (( أن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى في منامه رجلاً مستلقياً على قفاه ، ورجل قائم بيده فهر أو صخرة ، فيشدخ به رأسه ، فيتدهده الحجر ، فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان ، فيصنع به مثل ذلك ، فسأل عنه ، فقيل له : هذا رجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار ، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة )) 0
ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله وحفظ أمره ، فيتمثل خصماً دونه ، فيقول : يارب ، حملته إياي فخير حامل ؛ حفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتبع طاعتي 0 فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به ، فيأخذ بيده ، فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق ، ويعقد عليه تاج الملك ، ويسقيه كأس الخمر 0
يا من ضيع عمره في غير الطاعة ! يا من فرط في شهره ، بل في دهره وأضاعه! يا من بضاعته التسويف والتفريط ، وبئست البضاعة ! يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان ، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة ؟! 0
عباد الله : أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة ، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة ، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار ؟ أفما لنا فيهم أسوة ؟!
يا نفس فاز الصالحـون بالتقى وأبصروا الحق وقلبي قـد عمى
يا حسنهم و الليـل قد جنهم و نورهم يفوق نور الأنجــم
ترنمو بالــــذكر في ليلهم فعيشهم قد طـــاب بالترنم
ويحك يا نفس ألا تيـــقظ ينفع قبل أن تزل قـــدمي
مضى الزمان في توان و هـوى فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك ، وصل الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم 0

رمضان شهر الجهاد والبطولات


رمضان شهر الجهادالصيام مصدر قوة روحية تدفع الى العمل , واعتقاد المؤمن انه يؤدي عبادة فرضها الخالق مما يمده بالروح الفتى والعزم القوى ؛ لذلك كانت شهور رمضان أيام نصر حربي , وفوز نضالى , ففي مواسم هذا الشهر الكريم تحققت انتصارات اسلامية رائعة تبتدئ بمعركة بدر مرورا بمعارك كثيرة أشهرها فتح مكة والأندلس وحطين وعين جالوت حتى جاء نصر الله وتم العبور في شهر رمضان لذلك كان هذا الشهر يحفل على مد العصور بكبريات الوقائع الحربية الحاسمة في تاريخ الاسلامولكن رمضاننا هذه الأيام لا نصيب له مما فات لان سلطان الاسلام لم يعد موجودا . فهو يأتي والأمة تنزف في مواطن كثيرة،فهذا جرح فلسطين الغائر , وذاك جرح الشيشان نازف، وجرح ثالث في كشمير ، و رابع في جنوب الفلبين، وخامس في بورما ... و ما يبرح أن ينزف جرح جديد حتى يلحق به جرح أخر، ففي رمضان كان غزو أفغانستان من قبل أمريكا ولما ظهرت بعض الأصوات لتقول لأمريكا بأن رمضان قادم ويجب أن نراعي حرمته فلا نغز المسلمين ، قال بوش متبجحا إن الدولة الإسلامية كانت تخوض المعارك في شهر رمضان ــ وصدق وهو كذوب ـــ ثم يأتي بعده رمضان آخر ليشهد شلالا من الدماء في بلد آخر بلد الرافدين ، لتتكرر نفس المشاهد ولكن مع تغير الوجوه ، قتل وتدمير وتفتيت لأجساد الأطفال والنساء والشيوخ . ليرى فيها أنواع القنابل العنقودية و التفريغية والذكية والغبية والتقليدية وأسماء ما سمعنا بها من قبل .وعلى وقع دماء اليوم التي ما زالت تسيل, أعود لأذكر بدماء زكية طاهرة سالت بالأمس, وآلت هذه السيول إلى العز والتمكين, ليكون هذا التذكير بإذن الله فيه النفع للمسلمين , والله الموفقالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ، وبه تنال العزة في الدنيا والآخرة ، وهو من أفضل الأعمال وأجل القربات ، وما ذل المسلمون إلا عندما تركوا الجهاد ، وركنوا إلى الدنيا ، فتكالب عليهم الأعداء ، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، والتذكير بالجهاد في هذا الشهر المبارك ، تذكير بماض مشرق نحن أحوج ما نكون إلى الاسترشاد به ، لنخرج من أزمة طال أمدها ، وبعد زمنها ، حتى صرنا في مؤخرة الأمم ، وأصبحنا مع كثرتنا غثاءً كغثاء السيل ، فنزع الله المهابة منا من قلوب أعدائنا ، وقذف في قلوبنا الوهن - حب الدنيا وكراهية الموت - ، فالتذكير بالماضي ينبغي أن يساق للعبرة ، وللإفادة منه في صنع حاضرنا ، ورسم صورة مشرقة لمستقبلنا .أمر الله عز وجل بالجهاد وحث عليه ، ورغب فيه حتى وصف من يبذل نفسه في سبيله بمن يبيع نفسه لله ، ونعم البيع ذلك البيع فقال عز وجل : {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } ( التوبة 111) ، وسمى سبحانه الجهاد تجارة ولكنها تجارة مع الله ، وليس الثمن دراهم ودنانير ، ولكنه النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون }( الصف:11) .ووردت في فضل الجهاد الأحاديث المتكاثرة ، من ذلك ما جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله والجهاد في سبيله ) متفق عليه ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه ، وقال : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ،ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض .... الحديث ) رواه البخاري .وليست الغاية من الجهاد في الإسلام إزهاق النفوس وتدمير الممتلكات ، وترميل النساء ، ولكن الغاية هي نشر دين الله في الأرض ، وإزاحة المعوقات والعقبات التي تحول بين الناس وبين وصول دعوة الله إليهم ، حتى يقبلوا على الإسلام لا يعوقهم عنه جور جائر ، ولا تسلط باغٍ .وشهر رمضان المبارك هو شهر الجهاد ، وفيه وقعت أعظم معركتين في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الأولى معركة بدر الكبرى التي كانت فرقاناً فرق الله به بين الحق والباطل ، وأصبح للمسلمين بعدها العزة والمنعة .الثانية فتح مكة ، وبها زالت غربة الإسلام الأولى ، وسقطت رايات الوثنية في البلد الحرام ، وأصبح الإسلام عزيزاً في أرجاء الجزيرة العربية .وكذلك كان هذا الشهر عند سلف الأمة ، فكثير من الأحداث والفتوحات التي كان لها أعظم الأثر في حياة المسلمين وقعت في هذا الشهر الكريم .ومما يؤسف له أن هذا المفهوم قد انقلب في نفوس كثير من المسلمين اليوم ، فبعد أن كان رمضان شهر الجهاد والعمل والتضحية ، أصبح شهراً للكسل والبطالة وفضول النوم والطعام ، وهو انتكاس خطير في المفاهيم ، يجب تصحيحه ، حتى تعيش الأمة رمضان كما عاشه نبينا - صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة من بعده جهادا وعبادة وعملاً وتضحية ، وصدق نبينا - صلى الله عليه وسلم- حين قال : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .فهل يعي قادة الأمة درس الجهاد ليعيدوا للأمة كرامتها وعزتها , بعد أن ذاق المسلمون صنوف الذل وضروب الإهانة .فمرات على أعتاب الخديعة والسلام ( الاستسلام ) , ومرات بالهزيمة , وأحيانا بالخيانة .ولكن الأمل باق : ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) وفي لفظ للبخاري: ((لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)) وفي لفظ لأحمد: ((لا يبالون من خالفهم أو خذلهم)).1. غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة :ـكانت تلك الغزوة فرقانا بين الحق والباطل، تلك الغزوة التي جعلت للمسلمين كيانا مهابا وجانبا مصونا . وبعد هذه الغزوة أصبح للمسلمين كيانا ماثلا لأعين الكفار يحسبون له ألف حساب ولا يجرؤون على تجاهله، بعد أن كانوا مستضعفين لا يكترث بهم بل ويستهان بهم ، أصبحوا بعدها قوة ضاربة يهابها الكفار. فكانت تلك الحادثة عرسا حقيقيا في رمضان وفرحا صادقا للمسلمين في شهر الفرقان.2. فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة .وكان لهذا الفتح أثر كبير في تاريخ البشرية، فقد قضى على الأوثان والشرك في مكة تمامًا، وتسابقت الشعوب والقبائل إلى الدخول في الإسلام، قال تعالى عن نتيجة الفتح : (( اذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا * )) ودخلت الجزيرة العربية بأكملها في دين الله، وبدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بعث الرسل إلى البلاد المجاورة. ووضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الأسس الخالدة التي قامت عليها الفتوحات الإسلامية، مثل عدم الاعتداء على المدنيين، وعدم قطع شيء من النبات بلا فائدة، والعفو والصفح عند المقدرة.3. فتح ( البويب) في السنة 13 هجرية .وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئا عظيما لا يمكن حصره وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام .4. فتح النوبه سنة 31 هجرية.وما ان استتب الأمر لعمرو بن العاص في مصر , حتى سير حملة جنوبا بقيادة عبدالله بن أبي السرح لنشر الاسلام في بلاد النوبة النصرانية , ولتأمين حدود مصر الجنوبية ... قوبلت الحملة بمقاومة عنيفة لم تستطع التوغل جنوبا ! وبعد قتال عنيف تم عقد معاهدة حسن الجوار عرفت باسم معاهدة ( البقط ) ! .. ظلت هذه المعاهدة أساس التعامل لمدة ستة قرون تسللت معها القبائل العربية المسلمة وتمازجت مع القبائل النوبية , ليدخل الناس في دين الله أفواجا .....5. بلاط الشهداء سنة 114 هجرية. .لقد كان يوم بلاط الشهداء يوما حاسما في التاريخ. أضاع فيه المسلمون أملا من أعز الآمال ... وفقدوا خلاله بطلا من أعظم الأبطال.... وتكررت فيه مأساة يوم (أحد) سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا...ولولا إيثارهم للغنائم لكان للإسلام شأن آخر اليوم في فرنسا وما بعدها من بلاد أوربا .6. فتح عمورية سنة 223 هجريةطمع "تيوفيل بن ميخائيل" ملك الروم في بلاد المسلمين، خاصة عندما علم أن جنود المسلمين جميعهم في أذربيجان يواصلون فتوحاتهم. فأخذ يعبئ الجنود، وخرج قائدًا على مائة ألف من الروم لقتال المسلمين، فوصل إلى حصن "زبطرة"، فقتل الأطفال والشيوخ، وخرّب البلاد، وأسر النساء وسباهن، وانتهك أعراضهن وحرماتهن، ومثّل بكل من وقع في يده من المسلمين . وكان من ضمن النساء امرأة اقتادها جنود الروم للأسر، فصرخت هذه المرأة، وقالت: "وامعتصماه".فلما وصل الخبر إلى "المعتصم" خليفة المسلمين استشاط غضبًا، وأخذته الحمية والغضب لله، وقال: "لبيك". وأخذ في الاستعداد، وجمع الجنود، وأعدّ العدة، وخرج على رأس جيش لنجدة المسلمين، وعسكر بهم في غربي نهر دجلة , وبعث "المعتصم" عجيف بن عنبة وعمرًا الفرغاني لنجدة أهل زبطرة. فوجدا أن الروم كانوا قد رحلوا عنها بعد الفواحش الكثيرة التي ارتكبوها بأهلها. ولكن المعتصم أصرّ على تتبع الروم وعدم الرجوع عن قتالهم، فسار إلى بلادهم، وسأل عن أقوى حصونها، فعلم أنها عمورية؛ حيث لم يتعرض لها أحد من القادة المسلمين من قبل، وأنها أفضل عند الروم من القسطنطينية نفسها، فصمّم أمير المؤمنين المعتصم على فتح هذه المدينة، رغم ما تلقاه من تحذيرات المنجمين وتخويفهم له من أن ذلك الوقت ليس وقت فتح عمورية؛ إذ قال له المنجمون: "رأينا في الكتب أن عمورية لا تفتح في هذا الوقت، وإنما وقت نضج التين والعنب". لكن المعتصم لم يستجب لهم، ولم يرضخ لخرافاتهم، وقرر فتح عمورية.أقام المعتصم على نهر سيحان، وأمر أحد قادته وهو "الإفشين" أن يدخل بلاد الروم عن طريق "الحدث"، كما أمر "أشناس" أن يدخل عن طريق "طرسوس"، وحدد لهما يومًا يلتقيان فيه عند أنقرة. واجتمع الجيش عند أنقرة، ثم دخل المدينة، وسار حتى وصل عمورية، ونظّم المعتصم الجيش، فجعل نفسه في القلب، و"الإفشين" على الميمنة، و"أشناس" على الميسرة، وقام الجيش الإسلامي بحصار المدينة حصارًا شديدًا، حتى استطاع أن يُحدث ثغرة في سورها، فاندفع الجنود داخل المدينة، وحاربوا بكل قوة وشجاعة؛ حتى سيطروا على المدينة، وانتصروا على الروم. ((كانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان وقفل بعد خمسة وخمسين يوما .. )) [9] وقد خلّد الشاعر أبو تمام هذا النصر بقصيدة عظيمة، قال في أولها:السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حدِّه الحـدُّ بين الجـدِّ واللعـبوهكذا تم فتح أصعب الحصون الرومانية، مما كان له أكبر الأثر في نفوس المسلمين، حيث قويت معنوياتهم، وسهل لهم استمرار الفتوحات في شرق أوروبا. كما أضعف هذا النصر من معنويات الروم، لأنه أظهر لهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وأنهم أصبحوا قوة لا يستهان بها، ويخشى الأعداء بأسها. كذلك عايش بعض الروم الحياة الإسلامية، وأعجبوا بأخلاق المسلمين وطهارة سيرهم، وعظمة دينهم، فدخلوا في الإسلام، بعد أن شعروا برحمته وعدله.7. عين جالوت في فلسطين سنة 658 هجرية :ــ"عين جالوت" بلدة من أعمال فلسطين المغتصبة - ردها الله إلى المسلمين قريبًا - وهي بلدة بين بيسان ونابلس.وبطل هذه المعركة الجليلة هو السلطان المظفر سيف الدين قُطز بن عبد الله المعزي، الذي تولَّى الحكم في مصر يوم السبت 17 من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة .وفي فتحها درس كبير : إذ أن المغول من أشرس الناس في القتال كما هو معلوم , وقد اكتسحوا العالم من شرقه حتى وصلوا إلى دار الخلافة فدمروها , ثم عرجوا على فلسطين , وقبل أن يذهبوا إلى أرض الحرمين خرج لهم هذا القائد الهمام وخلفه المصريون ؛ فكان النصر الذى زهى به الزمان .فلماذا يهاب قادة المسلمين اليوم من اليهود ؟ . أليس لهم في ماضيهم سنة ؟ !!. 8. فتح شقحب سنة 702 هجريةوصل التتر إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادا وقلق الناس قلقا عظيما وخافوا خوفا شديداوقال الناس لا طاقة لنا بلقاء التتار لكثرتهم وتحدث الناس بالأراجيف ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار فيقول له الأمراء قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى{ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }. , فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم وأثبت الشهرَ( رمضان) ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي, فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته, ودارت المعركة يومي السبت والأحد وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال وأنه لم يسلم منهم إلا القليل فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار .9. فتح قبرص في عهد المماليك سنة 829 هجرية10. معركة المنصورة سنة 647هـ11 – انتصار العاشر من رمضان على اليهود .

السبت، 10 يوليو 2010

وقفات تربوية مع شهر شعبان



أيام مضت، وشهور انقضت، ودار التاريخ دورته، فأقبلت الأيام المباركة تبشِّر بقدوم شهر القرآن، وبين يدي هذا القدوم يهلُّ علينا شهر شعبان، مذكرًا جميع المسلمين بما يحمله لهم من خير، والمسلم يعلم أن شهر شعبان ما هو إلا واحد من شهور السنة ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ (التوبة: من الآية 36)؛ ولكن المسلم يشعر أن لشهر شعبان مذاقاً خاصاً فيفرح بقدومه ويستبشر به خيراً، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس)، ومن هنا كانت تلك الوقفات التربوية مع هذا الشهر الكريم:

(1) مكانة الشهر :

هو الشهر الذي يتشعب فيه خير كثير؛ من أجل ذلك اختصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة تفضِّله على غيره من الشهور، ولذلك يتميز شهر شعبان بأنه شهر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الشهر الذي أحبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضَّله على غيره من الشهور، فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان).

ووقفتنا التربوية هنا: هل تحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، وهل تجد في نفسك الشوق لهذا الشهر كما وجده الحبيب؟، وهل تجعل حبك للأشياء مرتبطًا بما يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؛ هو اختبار عملي في أن تحب ما يحب الله ورسوله "لا يؤمن أحدكم؛ حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".

(2) عرض الأعمال:
وهو الشهر الذي فيه تُرفع الأعمال إليه سبحانه وتعالى؛ فقد روى الترمذي والنسائي عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ من حديث النبي صلي الله عليه وسلم: ".. وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ"؛ ففي هذا الشهر يتكرَّم الله على عباده بتلك المنحة العظيمة؛ منحة عرض الأعمال عليه سبحانه وتعالى، وبالتالي قبوله ما شاء منها، وهنا يجب أن تكون لنا وقفة تربوية؛ فإن شهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يرفع عملك إلى الله؟ هي لحظة حاسمة في تاريخ المرء، يتحدد على أساسها رفع أعمال العام كله إلى المولى تبارك وتعالى القائل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر: من الآية 10)، فهل تحب أن يُرفع عملك وأنت في طاعة للمولى وثبات على دينه وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية؟، أم تقبل أن يُرفع عملك وأنت في سكون وراحة وقعود وضعف همة وقلة بذل وتشكيك في دعوة وطعن في قيادة؟، راجع نفسك أخي الحبيب، وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى مولاها في شهر رفع الأعمال.

(3) الحياء من الله:
ففي الحديث السابق بُعْدٌ آخر يجب أن نقف معه وقفةً تربويةً، فالناظر إلى حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان، يظهر له أكمل الهدي في العمل القلبي والبدني في شهر شعبان، ويتجسد الحياء من الله ونظره إليه بقوله: ".. وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، ففي الحديث قمة الحياء من الله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يراه الله إلا صائمًا، وهذا هو أهم ما يجب أن يشغلك أخي المسلم، أن تستحي من نظر الله إليك، تستحي من نظره لطاعات قدمتها امتلأت بالتقصير، ولذلك قال بعض السلف: (إما أن تصلي صلاة تليق بالله جل جلاله، أو أن تتخذ إلهًا تليق به صلاتك)، وتستحي من أوقات قضيتها في غير ذكر لله، وتستحي من أعمال لم تخدم بها دينه ودعوته، وتستحي من همم وطاقات وإمكانيات وقدرات لم تستنفذها في نصرة دينه وإعزاز شريعته، وتستحي من قلم وفكر لم تسخره لنشر رسالة الإسلام والرد عنه، وتستحي من أموال ونعم بخلت بها عن دعوة الله، وتستحي من كل ما كتبته الملائكة في صحيفتك من تقاعس وتقصير، وتستحي من كل ما يراه الله في صحيفتك من سوءات وعورات، كل ذلك وغيره يستوجب منك أخي الحبيب الحياء من الله والخشية منه.

(4) مغفرة الذنوب:
فإن شهر شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن لله في أيام دهركم أيامًا وأشهرًا يتفضَّل بها الله على عباده بالطاعات والقربات، ويتكرَّم بها على عباده بما يعدُّه لهم من أثر تلك العبادات، وهو هديةٌ من رب العالمين إلى عباده الصالحين؛ ففيه ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأنها في قوله: "يطِّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن"، هي فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته وجماعته، وهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود؛ وليكن شعارنا جميعًا قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: من الآية 10)، قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه، هي فرصة لكل من سولت له نفسه التجرؤ على الله بارتكاب معاصيه، هل فرصة لكل مسلم قد وقع في خطأ "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" هي فرصة إذًا لإدراك ما فات، وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب وناصعة البياض بالطاعة.

(5) سنة نبوية:
شعبان هو شهر الهَدْي النبوي والسنة النبوية في حب الطاعة والعبادة والصيام والقيام؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان)، وفي رواية عن النسائي والترمذي، قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله)، وفي رواية لأبي داود، قالت: (كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان)، وهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)، ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (وكان أحب الصوم إليه في شعبان)، ولشدة معاهدته صلى الله عليه وسلم للصيام في شعبان قال ابن رجب: (إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور)، قال ابن حجر: (في الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان)، وقال الإمام الصنعاني: (وفيه دليل على أنه يخص شهر شعبان بالصوم أكثر من غيره)، وذكر العلماء في تفضيل التطوع بالصيام في شهر شعبان على غيره من الشهور "أن أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده؛ وذلك يلتحق بصيام رمضان؛ لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، والوقفة التربوية هنا كم يومًا تنوي صيامه من هذا الشهر اقتداءً بالحبيب".

(6) نوافل الطاعات:
إذا كان شعبان شهرًا للصوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شهر لنوافل الطاعات كلها، ينطلق فيه المسلم من حديث: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، ولما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان؛ فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، فهو ميدان للمسابقة في الخيرات والمبادرة للطاعات قبل مجيء شهر الفرقان، فأروا الله فيه من أنفسكم خيرًا.

(7) السقي السقي:
نعم هو شهر السقي والتعهد والتفقد لما قام به المسلم في سابق أيامه؛ حتى يجني الحصاد بعده، قال أبو بكر البلخي: (شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع)، وقال أيضًا: (مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر)، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان، ولذلك كان تسابق السلف الصالح على هذا الأمر واضحًا، قال سلمة بن كهيل كان يُقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن، فأدرك زرعك أخي الحبيب في شهر شعبان، وتعهده بالسقي وتفقده ألا يصاب بالجفاف.

(8) غفلة بشرية:
شهر شعبان هو الشهر الذي يغفل الناس عن العبادة فيه؛ نظرًا لوقوعه بين شهرين عظيمين؛ هما: رجب الحرام ورمضان المعظم، وفيه قال الحبيب: "ذلك شهر يغفل عنه الناس"، وقد انقسم الناس بسبب ذلك إلى صنفين:

صنف انصرف إلى شهر رجب بالعبادة والطاعة والصيام والصدقات، وغالى البعض وبالغ في تعبده في رجب؛ حتى أحدثوا فيه من البدع والخرافات ما جعلهم يعظمونه أكثر من شعبان.

والصنف الآخر لا يعرفون العبادة إلا في رمضان، ولا يقبلون على الطاعة إلا في رمضان، فأصبح شعبان مغفولاً عنه من الناس، واشتغل الناس بشهري رجب ورمضان عن شهر شعبان، فصار مغفولاً عنه؛ ولذلك قال أهل العلم: هذا الحديث فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عزَّ وجلَّ، وقد كان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة، فهي دعوة لوقفة مع النفس، هل صرنا من الغافلين عن شهر شعبان وفضله؟ وهل أدركتنا الغفلة بمعناها المطلق؟ هي وقفة تربوية نقيم فيها أنفسنا ومدى تملك الغفلة منا، ونعرض فيها أنفسنا على قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ (الكهف: من الآية 28)، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 205) ،وقوله تعالى﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 179) سلَّمنا الله وإياكم من الغفلة ومضارها، وجعلنا وإياكم من أهل طاعته على الدوام.

(9) اطرقوا أبواب الجنان:
فإن شهر شعبان بمثابة البوابة التي تدخلنا إلى شهر رمضان؛ ولأن رمضان هو شهر تفتح فيه أبواب الجنة، كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين" (البخاري)، فأين المشمرون عن السواعد؟!

أين المشتاقون إلى لقاء الله؟! أين المشتاقون إلى الجنة؟! ها هي الجنة تنادي أنا أصبحت عند أبوابكم، ففي شهر شعبان مجال طرق الأبواب، بكل وسائل الطرق المتاحة، فاطرقوا أبواب الجنان بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله واللجوء إليه، واطرقوا أبواب الجنان بالتضرع والوقوف على أعتاب بابه مرددين: (لن نترك بابك حتى تغفر لنا)، واطرقوا أبواب الجنان بالصيام والقيام والصلاة بالليل والناس نيام، واطرقوا أبواب الجنان بالطاعات والقربات وبالإلحاح في الدعاء؛ فإن أبا الدرداء كان يقول: (جِدوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له)، هي دعوة للتحفز والاستعداد والتهيؤ بالوقوف على العتبات والأعتاب؛ لعله يفتح عن قريب فترى نور الله القادم من شهر القرآن.

(10) دورة تأهيلية لرمضان:
شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ يقبل عليه المسلم ليكون مؤهلاً للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهِّز برنامجه في رمضان، ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية وحركة تأهيلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان؛ فهو دورة تأهيلية لصيام رمضان؛ حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، ووجد في صيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذَّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، وحتى يتحقَّق هذا الأمر؛ فهذا برنامج تأهيلي تربوي يقوم به المسلم في شهر شعبان استعدادًا لشهر رمضان المبارك:

أ- التهيئة الإيمانية التعبدية:
- التوبة الصادقة أولاً، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي وترك المنكرات، والإقبال على الله، وفتح صفحة جديدة بيضاء نقية.

- الإكثار من الدعاء "اللهم بلغنا رمضان"؛ فهو من أقوى صور الإعانة على التهيئة الإيمانية والروحية.

- الإكثار من الصوم في شعبان؛ تربيةً للنفس واستعدادًا للقدوم المبارك، ويفضَّل أن يكون الصوم على إحدى صورتين: إما صوم النصف الأول من شعبان كاملاً، وإما صوم الإثنين والخميس من كل أسبوع مع صوم الأيام البيض.

- العيش في رحاب القرآن الكريم، والتهيئة لتحقيق المعايشة الكاملة في رمضان؛ وذلك من خلال تجاوز حد التلاوة في شعبان لأكثر من جزء في اليوم والليلة، مع وجود جلسات تدبُّر ومعايشة القرآن.

- تذوَّق حلاوة قيام الليل من الآن بقيام ركعتين كل ليلة بعد صلاة العشاء، وتذوَّق حلاوة التهجد والمناجاة في وقت السحَر بصلاة ركعتين قبل الفجر مرةً واحدةً في الأسبوع على الأقل.

- تذوَّق حلاوة الذكر، وارتع في "رياض الجنة" على الأرض، ولا تنسَ المأثورات صباحًا ومساءً، وأذكار اليوم والليلة، وذكر الله على كل حال.

ب- التهيئة العلمية:
- قراءة أحكام وفقه الصيام كاملاً (الحد الأدنى من كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق)، ومعرفة تفاصيل كل ما يتعلق بالصوم، ومعرفة وظائف شهر رمضان، وأسرار الصيام (من كتاب إحياء علوم الدين)، وقراءة تفسير آيات الصيام (من الظلال وابن كثير).

- قراءة بعض كتب الرقائق التي تعين على تهيئة النفس (زاد على الطريق، المطويات الجديدة التي تَصدر قُبيل رمضان من كل عام).

- الاستماع إلى أشرطة محاضرات العلماء حول استقبال رمضان، والاستعداد له، ومنها شرائط أ. عمرو خالد، وشريط روحانية صائم للشيخ الدويش، وغيره من العلماء.

- مراجعة ما تم حِفْظُه من القرآن الكريم؛ استعدادًا للصلاة في رمضان، سواءٌ إمامًا أو منفردًا، والاستماع إلى شرائط قراءات صلاة التراويح، مع دعاء ختم القرآن.

ج- التهيئة الدعوية:
- إعداد وتجهيز بعض الخواطر والدروس والمحاضرات والخطب الرمضانية والمواعظ والرقائق الإيمانية والتربوية للقيام بواجب الدعوة إلى الله خلال الشهر الكريم.

- حضور مجالس العلم والدروس المسجدية المقامة حاليًّا؛ استعدادًا لرمضان والمشاركة فيها، حضورًا وإلقاءً.

- العمل على تهيئة الآخرين من خلال مكان الوجود- سواءٌ في العمل أو في الدراسة- بكلمات قصيرة ترغِّبهم بها في طاعة الله.

- إعداد هدية رمضان من الآن لتقديمها للناس دعوةً وتأليفًا للقلوب، وتحبيبًا في طاعة الله والإقبال عليه؛ بحيث تشمل بعضًا مما يلي (شريط كاسيت- مطوية- كتيب- ملصق.. إلخ).

- إعداد مجلة رمضان بالعمارة السكنية التي تسكن بها؛ بحيث تتناول كيفية استقبال رمضان.

- الإعداد والتجهيز لعمل مسابقة حفظ القرآن في مكان الوجود.

د- التهيئة الأسرية:
- تهيئة مَن في البيت من زوجة وأولاد لهذا الشهر الكريم، وكيفية الاستعداد لهذا الضيف الكريم، ووضع برنامج لذلك.

- الاستفادة من كتاب (بيوتنا في رمضان)، وكتيب (الأسرة المسلمة في شهر القرآن) - ممارسة بعضٍ من التهيئة الإيمانية السابقة مع الأسرة.

- عقد لقاء إيماني مع الأسرة يكون يوميًّا بقدر المستطاع.

هـ- تهيئة العزيمة بالعزم على:

- فتح صفحة جديدة مع الله.

- جعل أيام رمضان غير أيامنا العادية.

- عمارة بيوت الله، وشهود الصلوات كلها في جماعة، وإحياء ما مات من سنن العبادات، مثل (المكث في المسجد بعد الفجر حتى شروق الشمس، المبادرة إلى الصفوف الأولى وقبل الأذان بنية الاعتكاف.. إلخ).

- نظافة الصوم مما يمكن أن يلحق به من اللغو والرفث.

- سلامة الصدر.

- العمل الصالح في رمضان، واستحضار أكثر من نية من الآن، ومن تلك النيات: (نية التوبة إلى الله، نية فتح صفحة جديدة مع الله، نية تصحيح السلوك وتقويم الأخلاق، نية الصوم الخالص لله، نية ختم القرآن أكثر من مرة، نية قيام الليل والتهجد، نية الإكثار من النوافل، نية طلب العلم، نية نشر الدعوة بين الناس، نية السعي إلى قضاء حوائج الناس، نية العمل لدين الله ونصرته، نية العمرة، نية الجهاد بالمال... إلخ).

ذ- التهيئة الجهادية: وهي تحقيق معنى "مجاهدًا لنفسه"؛ وذلك من خلال:
- منع النفس من بعض ما ترغب فيه من ترف العيش، والزهد في الدنيا وما عند الناس، وعدم التورط في الكماليات من مأكل ومشرب وملبس، كما يفعل العامة عند قدوم رمضان.

- التدريب على جهاد اللسان فلا يرفث، وجهاد البطن فلا يستذل، وجهاد الشهوة فلا تتحكم، وجهاد النفس فلا تطغى، وجهاد الشيطان فلا يمرح، ويُرجع في ذلك إلى كتيب (رمضان جهاد حتى النصر) لـ"خالد أبو شادي".

- حَمْلُ النفس على أن تعيش حياة المجاهدين، وتدريبها على قوة التحمُّل والصبر على المشاقِّ، من خلال التربية الجهادية المعهودة.

- ورد محاسبة يومي على بنود التهيئة الرمضانية.
بقلم: عبد الله الحامد .