ومما ورد في حب الله

ومما ورد في حب الله تعالى :

قال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.

وفي بعض الكتب: عبدي أنا -وحقك - لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.

وقال يحيى بن معاذ:

إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتَهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك وأنا صغير، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.

وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به.


أحب الأعمال إلى الله

( أحب الأعمال إلى الله }
1 - أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
2- أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله .
3 - أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله .
4 - أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم .
5- أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور ٌ تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهرًا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضيً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزول الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
6- يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل .
{ هذه الأحاديث من تخريج السيوطي وتحقيق الألباني }

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية.. مفهومه وضوابطه

بقلم: د. عطية فياض

لا شك أن تحكيم الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها أمر واجب، وفرض لازم، وحكم قاطع ثابت بالأدلة الصحيحة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولا خيار لمسلم ولا مسلمة ولا لمجتمع من المجتمعات في ذلك، ومن اختار شرعًا غير شرع الله أو بدل وعطل فقد أوقع نفسه في غضب الله ومقته وسخطه فضلاً عما يلحقه في الدنيا من شقاء وعنت ومشقة وحرج، والنصوص كثيرة في ذلك مما يبين أن تحكيم الشريعة الإسلامية من لوازم الإيمان ومقتضى الإسلام، قال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)) (النساء)।

ومن خصائص أحكام هذه الشريعة أنها كلٌّ متحد مترابط متناسق، يؤخذ جملةً وتفصيلاً دون انتقاء وتشهٍ، ولا يمكن أن تستقيم معاملات الناس وفق الشريعة دون عقيدة صحيحة وأخلاق قويمة، وعبادة سليمة، وقد وضعت هذه الأحكام منسجمة مع بعضها الآخر، مكملة له، فالفصل بين أحكامها بتر لها وإخراج لها عن مسارها الصحيح، كما يقول الشيخ شلتوت: "العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثمّ فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة، ولا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة، ذلك أن الشريعة بدون العقيدة علو ليس له أساس، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية التي توحي باحترام الشريعة ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون حاجة إلى قوة من خارج النفس".

وفي مقابل هذه الأحكام الجلية هناك واقع مرير للأمة في علاقتها بالشريعة الإسلامية ليس وليد اليوم، وإنما ابتدأ منذ أكثر من قرنين، واشتد بأسه مع سقوط الخلافة الإسلامية على أيدي العلمانيين، الذي حرصوا من خلال تربعهم على عرش كثير من الحكومات العربية والإسلامية أن يحدثوا خللاً في البنية الفكرية للشعوب الإسلامية، لتعيش في فصام نكد بين ما تؤمن به وتعتقده، وما تطبقه في حياتها من مناهج وأنظمة، فبينما تعتقد أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المدبر الحكيم العليم اللطيف الخبير، وتؤمن بالقرآن وما فيه من آيات وأحكام لكنها في كثير من مجالات حياتها تخالف ما تؤمن به وما تعتقده إن لم يتزلزل إيمانها الكامل ببعض الأحكام حيث لا تعدم نفرًا من المسلمين يتكلمون عن الربا وكأنه المنقذ للاقتصاد، ويستبشع تطبيق الحدود، ولا يجد غضاضة في التحاكم إلى القوانين الوضعية، بل ويعتبرها هي المرجعية والحضارة، وزاد من تجذر هذا الفصام أن الدول التي تعلن تطبيقها للشريعة الإسلامية لم تقم بالتطبيق الكامل بحيث تقدم نموذجًا مغريًا يدفع حتى ولو لمحاكاتها إنما للأسف شوهت الشريعة الإسلامية بتطبيقها الخاطئ.

في ظل هذا الواقع بدت مسألة من المسائل المهمة التي تواجه الحركات الإسلامية الصاعدة والتي تتبنى الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بالكامل، فماذا عساها أن تفعل أمام هذا الواقع المر، فهل تقوم بفرض الشريعة الإسلامية بالكامل من خلال القوانين التي تصدرها المجالس البرلمانية التي يشكل الإسلاميون فيها الأغلبية، وتعمل الحكومة على فرض الالتزام بها بقوة القانون وإجبار السلطة التنفيذية؟ أم يطبق ما تقدر عليه الدولة حسب ظروفها وإمكاناتها في الوقت الذي تعمل فيه على إزالة العوائق أمام الأحكام التي يتعذر عليها تطبيقه في الحال؟

إزاء هذا الجدل برز موضوع "التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية" فهل هناك تدرج في التطبيق أم أن التدرج قد انتهى بكمال الشريعة وتمام نزولها وانقطاع الوحي، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون التصرف مع هذا الواقع؟

نبين أولا معنى التدرج، وبيان صوره وأشكاله، ثم بيان كيفية التعامل مع هذا الواقع من منطلق قواعد الشريعة وأصولها.

معنى التدرج:

التدرج، تفعل من "درج" التدرج في اللغة: من دَرَجَ من باب دخل، ودرج الشيء يدرج درجًا ودَرَجانًا أي مشى مشيًا ضعيفًا، ودنا، ومضى لسبيله، ودرجه إلى كذا واستدرجه بمعنى: أدناه منه على التدريج فتدرّج، واستدرجه: رقاه من درجة إلى درجة، وأدناه على التدريج فتدرّج هو، كدرَّجه إلى كذا تدريجًا: عوده إياه كأنما رقاه منزلة بعد أخرى، والتدرج أخذ الشيء قليلاً قليلاً.

ومن ثم يمكن القول بأن التدرج: أخذ الأمور شيئًا فشيئًا، وقليلاً قليلاً، وعدم تناول الأمور دفعة واحدة.

وهذا المعنى هو الذي حرصت عليه الشريعة الإسلامية ودلت عليه نصوص القرآن والسنة، بل نزول القرآن الكريم منجمًا على ثلاث وعشرين سنة أبلغ دليل على اتباع الشريعة هذا المنهج في تثبيت الأحكام، قال تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106)) (الإسراء)، وقال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)) (الفرقان)، وفي الصحيح من حديث البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)) (القمر). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده..".

ولذلك وجدنا تدرجًا في التشريع من حيث الزمان إذ استغرقت عملية التشريع حتى اكتملت ثلاثًا وعشرين سنة، ومن حيث الأحكام تم البدء بالعقيدة والقيم الأخلاقية وتلتها الأحكام العملية، وتم بناء الفرد أولاً ثم بناء الدولة ثانيًا وهكذا، بل وعلى مستوى الحكم الواحد راعى الإسلام التدرج فيه وأمثلته كثيرة.

وهذا المنهج الإسلامي في التغيير هو الذي يستقيم مع طبيعة النفس التي خلقها الله سبحانه وتعالى وتتسم بسمات تستعصي معها على أن تقهر على شيء لا تريده ولا تستوعبه.
لكن هذا التدرج المشار إليه آنفًا قد انتهى ولا مجال للقول باتباعه وبنفس الطريقة لأن هذا يتعارض تعارضًا كاملاً مع قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3)، ولو قلنا بالتدرج في التشريع لكان معناه نسخ بعض الأحكام، وقد انتهى زمان النسخ.

ومن ثم فإن القول بالتدرج في التطبيق يجب أن يخرج منه وباتفاق الجميع التدرج في التشريع بمعنى الحكم على شيء ما بأنه مباح ثم بعد وقت يحكم عليه بأنه حرام، أو الحكم بإباحة شيء ما ثم يحكم عليه بالوجوب بعد ذلك، وهذه ليست محل نزاع ولا خلاف بين عقلاء الأمة علماؤها وغير علمائها.

لكن تبقى صورتان لهما علاقة بالتدرج:

الأولى: التدرج في الدعوة والبلاغ، ومعناه: بيان الأحكام الشرعية للناس شيئًا فشيئًا، لتتم معرفتهم، واستيعابهم لها، وإدراكهم لحقيقتها، والتدرج فيها من الأصول إلى الفروع، ومن الأيسر إلى ما يليه، ومن السهل إلى الأشد، ومن القريب لأذهانهم إلى ما بعد عنهم، وهذا واجب العلماء والدعاة خاصة، وما يجب أن يتوقف هذا العمل ولا تلك السنة، وهذا هو ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عندما أرسله إلى اليمن في حديث الصحيحين عن ابن عباس أن معاذًا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".

الثانية: تطبيق ما تستطيع الدولة أو الأفراد تطبيقه مما تعد القدرة شرطًا في القيام به، ويسقط مع العجز، أو يخفف حكمه، أو يترخص فيه على حسب درجة العجز، ومن ثم فما لا يمكن القيام به ولا القدرة عليه يؤجل تطبيقه إلى حين استيفاء شرطه وانتفاء موانعه، وألا يؤدي تطبيقه إلى مفسدة أعظم من المصلحة التي تترتب على تطبيقه، وكل من شرط القدرة على القيام بالتكليف وانتفاء العجز، والموازنة بين المصالح والمفاسد، من الأمور المعتبرة عند تطبيق أحكام الشرع.

ولذلك فإنه يجب بحث هذه المسألة في إطار شرط القدرة على القيام بالتكاليف، أو في باب فقه الموازنات، وليس تحت مسألة التدرج؛ فهذا هو الباب الرئيس لها وليس باب التدرج.

وقبل الحديث عن القواعد الحاكمة لهذه المسألة فإنه يجب توافر عدة أمور:

أ- الإيمان الكامل بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وصلاحيتها للتطبيق في جميع مجالات الحياة.

ب- وجود نية ورغبة صادقة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وليس التفافًا لتعطيلها والتحايل عليها بدعوى عدم القدرة.

ج- وجود خطة لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية في المجالات التي تعجز الدولة أو الأفراد عن القيام به.

د- وجود عجز حقيقي لا مجرد أعذار واهية.

هـ- ألا يؤجل تطبيق الأحكام التي يقدر على تطبيقها انتظارًا لمرحلة التطبيق الكامل، لحديث الصحيحين واللفظ لمسلم "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"

أما عن اعتبار القدرة والاستطاعة شرطًا في القيام بالتكليف فهو أمر بدهي تدل عليه الأدلة وتشهد له القواعد، ومن ذلك: قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية 16)، ولحديث "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ومنها ما ورد في الصحيح "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فهنا اعتد النبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة كشرط للتغيير، وتدرج بالمكلف من حالة إلى حالة بحسب استطاعته

وقد ورد عن كثير من الفقهاء أقوال وقواعد صاغوها من هذه الأدلة:

قال القرافي "يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل"، وقال ابن حزم: "فأما ما عجز عنه فساقط، وأما ما لم يعجز عنه فباقٍ على وجوب الطاعة له".

وقد صاغ القرافي قاعدة على ذلك فقال "والقاعدة أن المتعذِّر يسقط اعتباره، والممكن يستصحب فيه التكليف".

كما أن اعتبار مآلات التطبيق، بحيث لا يترتب على تطبيق حكم مفسدة أعظم من المصلحة من تطبيقه فيشهد له ما صح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها "يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة".

وهذا الحديث يعتبر أصلاً عظيمًا في هذا الباب؛ إذ راعى النبي صلى الله عليه وسلم مآلات الأمور فعندما غلب على ظنه أن الفعل المشروع يحدث فتنة في القوم امتنع عنه درءًا للمفسدة، وهو ما فعله عمر في تقسيم أرض السواد إذ امتنع عن تقسيمها بين الفاتحين وتركها بيد أهلها يدفعون عنها خراجًا.

وروي قريب مما تقدم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كما رواه ابن الجوزي أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه أمير المؤمنين الخليفة الراشد الخامس وقت قيلولته يستعجله بردّ المظالم إلى أهلها، فقال له عمر: يا بني، إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومتي الأجر مثل ما أحتسب الذي في يقظتي، إن الله لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، لكنه أنزل الآية والآيتين حتى استكنّ الإيمان في قلوبهم.

- وروي أن ابنه عبد الملك قال له: يا أبت لم لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور! فقال له عمر رضي الله عنه: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرّتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة".

- وروي عنه قوله "لو أقمت فيكم خمسين عامًا ما استكملت فيكم العدل، إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم، فأخرج معه طمعًا من الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا".

- وروي عنه قوله: "ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئًا".

- وسئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقيق العجم، يُشترون في شهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه".

وقال ابن تيمية: "خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا كقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ) - وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) - وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ) - وكذلك قوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا)- لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرًا عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد- إلى أن قال- رحمه الله: والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه".

ويقول: "فالواجب على المسلم أن يجتهد وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار".

ومن القواعد التي صاغها الفقهاء لضبط الأحكام المتقدمة:

قال القرافي: "إذا تعارضت المفسدة الدنيا والمفسدة العليا فإنا ندفع العليا بالتزام الدنيا"، وقال الزركشي في المنثور: "قاعدة: تعارض المفسدتين، قال ابن عبد السلام: أجمعوا على دفع العظمى في ارتكاب الدنيا". وقال ابن دقيق العيد: "من القواعد الكلية أن تدرأ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما إذا تعين وقوع إحداهما.... وأن يحصل أعظم المصلحتين بترك أخفهما إذا تعين عدم إحداهما"، وعند السيوطي وابن نجيم: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، ونظيرها: قاعدة خامسة، وهي "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة؛ قدم دفع المفسدة غالبًا، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات.. وقد يراعى المصلحة، لغلبتها على المفسدة.

وكل قاعدة من هذه القواعد لها أدلتها وتطبيقاتها الفقهية المتعددة حتى أن العز بن عبد السلام أورد أكثر من ستين مثالاً للأفعال المشتملة على مصالح ومفاسد وشرع فيها ارتكاب الأقل مفسدة لدفع الأعظم مفسدة، وترك المصلحة الدنيا لتحصيل المصلحة العليا.

ومن ثم فإذا كنت القوانين الحاكمة لبعض الأمور من المفاسد والمناكير فإن شرط تغييرها يجب أن يكون إلى الأصلح والمعروف فإن كان تغييرها يؤدي إلى ما هو أفسد من بقائها تركت، وبالطبع فإن الأفسد إنما يكون في طريقة تطبيق الحكم الشرعي.

ومن القواعد المهمة أيضًا في هذا الباب: قواعد إزالة الضرر، حيث قيد الفقهاء إزالة الضرر، وهو واجب شرعي بألا يزال بضرر مثله أو أكبر منه بل يزال بالمعروف والضرر الأخف.

ومن ثم فإذا كنا أمام تشريعات وضعية أوجدت مراكز قانونية لعشرات السنين، وأسس بموجبها الكثير من المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتدرب على العمل بموجب تلك القوانين رجالات في القضاء والسياسة والشرطة ونحوها، وبسبب غياب الشريعة الإسلامية لم تنضج كثير من الاجتهادات في مجال السياسة والحكم ويحتاج الأمر إلى المزيد منها وتنقيح ما هو موجود ففي مثل هذه الحالة يكون التطبيق الفوري في المجالات التي لها علاقة بما ذكر أفسد من ترك التطبيق.

ولو أخذنا أنموذج العلاقة بين المالك والمستأجر في مصر والذي حددته قوانين صدرت منذ أكثر من خمسين عامًا والتي تم بموجبها تأبيد عقد إيجار المساكن وتثبيت القيمة الإيجارية عند مستوى معين يتندر عليه الجميع، فلو أردنا تصحيح مثل هذه العلاقة وفقًا لأصول الشريعة وقواعد الفقه وقمنا بإخراج المستأجرين من مساكنهم فورًا دون تدبير مأوى لساكني هذه البيوت لأدى ذلك إلى مفسدة أعظم من مفسدة تأجيل تصحيح هذه الأوضاع الخاطئة، ومثل ذلك يقال في شأن المؤسسات الربوية إذ لا يتصور تحويلها إلى مؤسسات اقتصادية إسلامية بمجرد قانون أو قرار إداري؛ لأن الأمر يحتاج إلى تغيير الفلسفة التي تنطلق منها هذه المصارف وليس مجرد تثبيت سعر الفائدة أو تغييره، ومثله أيضًا في تأهيل القضاة ومنفذو الأحكام إذ يحتاجون إلى دربة وتحصيل خبرة بقواعد الشريعة وروحها ومقاصدها قبل أن تصاغ لهم قوانينها في شكل مواد، ويسبق ذلك أو يتزامن معه النظر في مناهج التعليم والتربية ووسائل الإعلام لتقوم بعملية الإعداد والتوجيه والتثقيف، وهذا كله وفق خطة مدروسة محددة.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "ولا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ واتخاذ كلمة التدرج "تكأة" للإبطاء بإقامة أحكام الله، وتطبيق شرعه، بل نعني بها: تحديد الأهداف بدقة وبصيرة، وتحديد الوسائل الموصلة إليها بعلم وتخطيط دقيق، وتحديد المراحل اللازمة للوصول إلى الأهداف بوعي وصدق بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها بالتخطيط والتنظيم والتصميم حتى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام كل الإسلام".

ويلاحظ أن ثمت أحكامًا لا يمكن دخولها في هذه الخطة المذكورة إنما يجب البدء فيها فورًا، وهي تلك الأحكام المتعلقة بالعقيدة وما يتعلق بها من أحكام؛ ومن ثم فإن النص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المرجعية التشريعية والثقافية والحضارية للأمة من الأمور التي لا يجوز التهاون فيها، ولا الخجل من إعلانها للدنيا كلها، ويضاف إلى ذلك أيضًا ما هو معلوم من الدين بالضرورة في باب المأمورات أو في باب المنهيات، ومن ثم فإن الإبقاء على نصوص المواد التي لا تجرم الزنا إلا إذا اقترن بحالة إكراه، أو استغلال لصغر سن أو ضعف تمييز لا بد من إزالتها وتعديلها ولا يمكن التدرج فيها بحال من الأحوال، ويقال مثل ذلك في نظائره.

أما غير ما تقدم فيخضع للسياسة الشرعية التي تنتهجها الدولة في ترتيب أولويات التطبيق والتي تقوم على فقه مراتب الأعمال، وترتيب المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية.

وختامًا يجب التأكيد أن وضع هذه الخطة وتنفيذها التي تحقق شرط القدرة على تطبيق الشريعة الإسلامية، وإزالة العوائق التي تحول دون تطبيقها من الأمور التي يجب أن تسعى الأمة كلها إلى تحصيلها، القادر منهم وغير القادر، من هم في سدة الحكم ومتخذي القرار ومن هم في مقام التوجيه والتعليم، ومن هم من عامة الناس أو كانوا ممن يطلق عليهم النخبة، وكل له دوره ولا يعذر أحد في ترك شريعة الله سبحانه وتعالى مهملة مضيعة؛ لأن هذا هو المنكر الأكبر التي يجب أن تتضافر جميع الجهود لتغييره بكافة الوسائل المقدور عليها، والميسور منها لا يسقط بالمعسور.


الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

الإخوان المسلمون.. بعيون إيطالية

إعداد: السيد شعيب.

بلغت دعوة الإخوان المسلمين شأوًا عظيمًا في أربعينيات القرن العشرين، جعلها محط اهتمام الساسة والباحثين والمفكرين في العالم، فضلاً عن الحكومات والقوى السياسية العالمية.

من أبرز الكتاب والصحفيين العالميين الذي كتبوا في شئون الإخوان العديد من الكتابات، وحبروا العديد من المقالات الكاتب والصحفي الأمريكي روبير جاكسون، صاحب الكتاب الشهير (حسن البنا الرجل القرآني)، والذي ترجمه الأستاذ أنور الجندي إلى العربية، والباحث الأمريكي ريتشارد ميتشيل الذي حصل على الدكتوراه في دراسته القيمة (الإخوان المسلمون).

والكاتب الإيطالي الدكتور أتريكو أنسياتو، السياسي والبحَّاثة في الشئون الشرقية والإسلامية، والذي يكتب في مجلة "إسكامبي انتركوننتالي" التي تصدر من روما باللغات الإيطالية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية وتهتم بالشئون العالمية.

ولقد كتب الكاتب مقالاً بعنوان (بعث جديد للإسلام صدى دعوة الإخوان المسلمين في جنوب ووسط وغرب أوربا) وترجمه عن الإيطالية الدكتور محمد الحسيني، مدير مكتب الإخوان المسلمين في إيطاليا، ونشرته مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية في الأربعينيات، وقد آثرنا أن ننشره هنا لفائدته الجمة.

بعث جديد للإخوان بالإسلام

تتمخض الحرب لا سيما إذا كانت طويلة عصيبة عن فورة في المشاعر والآراء ويقظة في الوعي وتوجيه للقوى، فإذا اختلت القيم الروحية ونفرت الغرائز عن وازعها من جانب تحفزت من جانب آخر الأصول المحركة تثبت كيانها وتتهيأ للنضوج وتثبت للسيادة والتوسع والانتشار فوق حطام ما تفيض عنه الملاحم من الأسى والشجن، ولنلاحظ أن هذه الأصول المحركة رغم ما قد يعتريها أحيانًا من الجمود تظل حية في المجلات الروحية والثقافية متجلية في بيئتها التاريخية والجغرافية السياسية التي منها خرجت وعليها درجت. وإن هي إلا ثمرة التدافع المتزن بين قوة التقاليد والسنن وقوة التطور.

هذه الأصول المحركة للقوى تجد دعامتها في تضاعيف مدنية ذات طابع واضح المعالم مرسوم الحدود، وتستمد زادها من فيض مبدأ عام شامل، وإن هذا المبدأ العام هو مصدر هذه المدنية ومميزها عن غيرها.

نهضة الإسلام

ولقد أدلت إلينا هذه الحرب الأخيرة (الحرب العالمية الثانية) بنهضة للإسلام، وأنها يقظة عالم يموج بثلاثمائة مليون نفس، وأنها بعث جديد لمدنية رفيعة أصيلة عريقة.

ولئن كانت مشخصاتها ومميزاتها جديدة إلا أنها لا تحيد أو تنفك عن السنن التقليدية، هي وثبة وافرة القوى زاخرة بالأعمال لها قدرها وخطرها في العالم الإسلامي عامة وفي إقليم البحر المتوسط خاصة.

أما باعث هذه النهضة والنافخ فيها من روحه، فحركة سياسية تستوحي من الإسلام غاياتها ووسائلها، هي حديثة عهد بالوجود ولكنها تنحدر من أصول تضرب في أعماق القدم، هي حركة الإخوان المسلمين التي تؤيدها جموع حاشدة من المريدين والأتباع من مصر إلى باكستان.

انبعثت هذه الحركة منذ عشرين عامًا بالإسماعيلية ثم لم تلبث أن شاعت في القطر بأسره، ثم غزت العالم الإسلامي كله، وها هي اليوم راسخة القدم في كل مكان منه.

ولا تخالن أن الجوهر الروحي والسياسي لهذه الحركة لا يعدو المهام السياسية المنوطة بالأحزاب، أو أن الحركة تقف عند حدود القطر المصري، بل إنها وحي ذو مشخصات عالمية تتجاوز نطاق الدولة، فهي وإن كانت مصرية المنبت إلا أنها رغم ذلك عربية إسلامية في أصولها وطوابعها ومادتها ومناهجها.

وجدير بالسياسيين والدارسين والناشرين والمهتمين بالبحوث الإسلامية أن يوالوا اهتمامهم بهذه الحركة.

فلقد دل الإسلام على حيوية دائبة وعلى ما تهيأ له من أسباب التطور والمساهمة كقوة عالمية في تطور الإنسانية كافة.

ولا يتمادى بنا القول إذا اعتقدنا مخلصين أننا تجاه حركة تسجل في تاريخ الإسلام استهلال عهد بكر، وتنسج بعزمتها وقائع تاريخ جديد، عقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وسقوط الخلافة العثمانية قامت في مصر والهند حركات قومية تفصل بين الوطنية والدين، وبذا فتحت هوة بين الإسلام والوطنية، مصدرها وَهَن الإحساس الديني وهجر السنن والتقاليد والتهافت على تقليد الأجانب، ونقل آثار منهجية مغايرة في مناحي التفكير والآراء إلى بيئة ليست بمنجمها ومنبتها، في حين يدعو الإسلام إلى حب الوطن، إلا أن اقتباس الآراء والأساليب الأوربية وعدم تمثلها تمامًا قد جر إلى انتحال نوع من الوطنية الضارة المتعصبة.

ومجمل القول أن التحول عن السنن وتجريد العمل السياسي عن مادته الدينية قد أدى بالوطنية إلى شعوبية جافة، بفعلها تولَّد الغل والضغن كما حدث بين الفرس والعرب.

انهيار الوفد

يتجلى مما أسلفنا سقوط الأحزاب الوطنية كالوفد، وقد كان أقوى الأحزاب المصرية ثم لم يلبث أن عانى انشقاقات عديدة وتمزقت أوصاله، وصار شُعَبًا عديدة نشب بينها صراع مستعر، على الرغم من اشتراكها جميعًا في المبادئ.

ولقد ملَّ الشعب الجدل والمعارك السياسية، فاتجهت جموعه بجمهرتها قدمًا نحو الإخوان المسلمين، ومن ثم ندرك هذا النضال المشبوب القائم بمصر بين الأحزاب القديمة وحركة الإخوان المسلمين الفتية القوية إلى حد أن الأحزاب القديمة تسعى جهدها إلى التملص من إجراء الانتخابات؛ خشية تصويت إجماعي ونصر محقق للإخوان المسلمين.

ولقد أبدى الزعماء القدماء عجزًا في تربية الشعب والسير به مع أطوار الزمن وتيار التاريخ، فلا عجب أن خلفهم اليوم ظهريًّا وانفض عنهم.

ولا نعتقد أن ما التمس من الوسائط الديكتاتورية التي تفعل فعلها في النظام المصري قادرة على منازلة أو اعتراض طريق حركة حديثة كهذه، سوف لا تخرج عن الميدان إلا قاهرة منتصرة لا يثنيها عارض ولا ينخذل لها عزم.

وإذا قلدت الأحزاب الوطنية النماذج الأوربية أغفلت في حسابها العامل الديني، وهو قوام الإسلام وملاكه، مع أن هذا العامل يزكي نفوس الإخوان المسلمين، وينفخ من روحه في حركتهم، فهم يسيرون حقًّا مع الإسلام من جديد جنبًا إلى جنب، وهم يجعلون الإسلام قبلتهم، وهم يرصدون للإسلام جهودهم ومساعيهم.

حركة الإخوان المسلمين

العامل الديني جد ضروري للعالم الإسلامي، إذ إنه يسود مناحي حياته الروحية والاجتماعية والثقافية، وهاكم الشيخ حسن البنا رائد حركة الإخوان المسلمين، فإنه وإن كان معلمًا متواضعًا في بادئ الأمر إلا أنه اشتهر كرجل عقيدة وإيمان، قد اجتمع له إلى كل هذا همة ولسان مفوه، ومضاء عزم، وكان مُدْبِرًا عما يعود عليه بالمصلحة، مقبلاً على ما فيه خير للشعب.

أدرك الرجل باعتماده على الدين وتمسكه بالسنة من جلالة المحل ما لم يدركه غيره، وحسبك أن شباب البلاد وأعلام الأزهر، وجمهرة الشعب تلتف حوله وتظاهره وتناصره.

ولقد جعل الرجل من حركته قوة لها خطرها وقدرها، وأصبحت جريدة الإخوان المسلمين ترجمان العالم الإسلامي كله، وأضحى نفوذها ورواجها عظيمًا داخل مصر وخارجها، قد تنزهت عن الجدل والمهاترات، وتبارت في الإجادة والإحسان حتى لا يداني شأنها من الصحف إلا النادر، وما برحت تستخلص مبادئها من نبعها الروحي الفياض حتى استوت لها أصول وافرة تقف راسخة كجموع مصفوفة متراصة من الخلق.

وبعد؛ فحركة الإخوان المسلمين أجل وأرفع من أن تكون حزبًا سياسيًّا فحسب، فإن برنامجها ومساعيها تشمل حياة الأمة المحمدية على مختلف وجوهها.

وقد رفع الشيخ حسن البنا برنامج الإخوان المسلمين ومبادئهم في مذكرة مفصلة تجلي علينا اهتمام الحركة في الميدان الاجتماعي بمصير الطبقة الفقيرة، وتطالب بحقوق 60% من المصريين يعيشون في الدرك الأسفل من الحياة البدائية، قد ملكت ضروب الفاقة عليهم كل سبيل، في حين أن حياة البلاد الاقتصادية تحتكرها ثلاثمائة وعشرون شركة أجنبية.

فالعودة إلى الإسلام أعظم نصر وأجل ما وُفِّقت إليه حركة الإخوان المسلمين، وهذا ما يضفي عليها طابعها ويمدها بالقوة.

والحق أن المسلم بقدر ما يتمسك بدينه ويعمل بأحكامه، بقدر ما يصير مناهضًا متسامحًا مجافيًا للتعصب والبغي والدس. وما نذكر ليس بجديد إنما تؤيده شواهد التاريخ ومآثره.

وقد عالج الشيخ حسن البنا في مذكرة مرفوعة إلى الملك فاروق مسألة الأقليات والعلاقة بالأجانب، مستعينًا في حل هذه المادة المعقدة العسيرة الدقيقة الخطيرة بأحكام الشريعة التي تكفل للأجانب والأقليات الدينية والقومية كل حقوقهم وتصون كرامتهم وفق العهد، والعهد في الوقت نفسه مقياس لتنظيم العلاقات بين الذات الإلهية والبشرية، ومعنى هذا إذن تثبيت مبادئ الاعتقاد السليمة الحرة وصون حريات الإنسان وتقوية الروابط القائمة بين الشرق والغرب لا قطع وشائجها، ثم إقامة جسر جديد راسخ الدعائم بين عالمين يسيران قدمًا في مداريهما.

نحو الخلافة

يثير مقال الخلافة في نفسي رضى عميقًا وذكريات عزيزة أستميح القارئ عفوًا إذا استطردت في ذكرها، فمنذ عام 1901م وأنا أدافع عما ينادي به الإخوان المسلمون المكللين بالنجاح في دعوتهم من المغرب الأقصى إلى باكستان، بما دبجت به في مجلة "النادي" الإيطالية العربية التي أنشأتها بالقاهرة.

ونشرت جريدة عرفات المصرية في عددها الصادر بالقاهرة في 26 مايو 1904م كلماتي التالية بعد أن عقبت عليها بالتأييد:

أفضى بي التفكير بعد سلسلة ملاحظات دقيقة على الآثار العملية لاتباع أحكام القرآن أو هجرها إلى أن الإقرار بالفكرة الإسلامية الكاملة أساس المدنية العربية وضرورة لازمة لترقي الشعب وتقدمه.. وإنه لمن صالح الأمم المتمدينة نفسها أن يعود الإسلام إلى مصادره الصافية راسخ القدم كما كان شأنه في سابق العصور.

وإني على يقين كما أسلفنا من أن المذهب الإسلامي الصحيح الذي يدعو إليه الإخوان المسلمون هو المثابة الوحيدة المهيِّئة للعالم الإسلامي بأسره لتقويم حب الوطن مما يكفل الحرية لكل شعب، ويعمل في الوقت نفسه على تآخيها في ظل جامعة الإسلام العظمى.

وما عدا هذه الحقيقة التي يمثلها الإخوان المسلمون ويصنعونها فزور وبهتان، وتدافع وتناحر، وكفاح عابث لا جدوى منه، وجري وراء اللبانات الشخصية والشهوات الزائفة.
-------

* المراجع:

مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد 180، السنة السادسة 18 ربيع الثاني 1367هـ 28 فبراير 1948م ص 13.

مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد 189، السنة السادسة 25 ربيع الثاني 1367هـ 6 مارس 1948م ص 6 ، 20.



الاثنين، 7 نوفمبر 2011

حزب الحرية والعدالة.. ضرورة وطنية

: بقلم / هشام حمادة

أعتقد أن حزب الحرية والعدالة هو المؤهل حاليًّا للقيام بمهمة إنقاذ عاجلة لأمة في مفترق الطرق، ولظني هذا عدة أسباب :

- أن حزب الحرية والعدالة يعبر عن مشروع نهضة للأمة، بدأ منذ أكثر من 80 عامًا برؤية واضحة لم تتغير ولم تتبدل بتغير العهود والظروف السياسية، فمنذ أن أسس الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928 وهو يعلي للنهضة رايةً، ولبناء الفرد الناجح وسائل، ولتأسيس المجتمع الصحيح النامي قواعد، ولإصلاح الحكم وتحرير الأوطان خططًا ومنهجًا .

وقد تشبثت الجماعة بمنهج الإصلاح والتحرر والنهوض لم يثنها عن عزمها حائل ولم تقعد أو تلِن في إنفاذه، ولم تهادن حاكمًا أو نظامًا حال بينها وبينه، وقدمت في سبيل ذلك التضحيات النفيسة ما بين اغتيال قادتها أو إعدامهم واعتقال عشرات الآلاف من أبنائها ومصادرة الأرزاق والتضييق على الأسر وترويع الأبناء والأهل، وما زادتها المحن إلا ثباتًا على المنهج الواضح وإلا التصاقًا بمصالح أبنائها وشعوبها، ولم تكن هذه المحن يومًا ذريعةً لمهادنة نظام أو نكوصًا عن طريق التحرر والإصلاح، ويبقى تاريخ الجماعة شاهدًا فاصلاً بينها وبين غيره .

أن حزب الحرية والعدالة قد مارست كوادره وخبرت كل الوسائل السياسية والاجتماعية على مدى هذه العقود الممتدة من السنوات في سبيل إعلاء شأن هذه الأمة، فأسسوا النوادي والجمعيات، وشاركوا في الانتخابات والنقابات والمجالس المحلية والنيابية، كما خاضت الجماعة من قبل معارك التحرر الوطني ضد المحتل البريطاني، بل تجاوزت بمشروعها الوطني حدود مصر، فروت بدماء شبابها أرض فلسطين وعيًا بأمن مصر القومي وانتماءً لأمة تسعى لتحريرها وتعمل على وحدتها .

وبقي واضحًا أن هذا المشروع الوطني على امتداد العهود المختلفة وبتغير الظروف السياسية المتعددة والمناخات السياسية العاصفة بقي ثابت الملامح لم يتبدل في عهد ولم يستكن في أزمة، وبقي يستهدف سلامة الأمة وقوتها، داعيًا لحرية أبنائها وكرامتهم، مؤكدًا دينها السمح وثوابتها وقيمها الوطنية الأصيلة، ومعتبرًا بالأهمية البالغة قضية الوحدة الوطنية حتى كان من الإخوة المسيحيين مستشارون لمؤسس الجماعة الأستاذ حسن البنا، وحديثًا يتولى منصب نائب الحزب مسيحي كريم؛ هو الأستاذ رفيق حبيب .

لذلك فإن حزب الحرية والعدالة لا يتميز فقط بأصالة مشروعه وعراقته أو بالقدرة على الاحتفاظ بهويته الوطنية والإسلامية على مختلف العهود والظروف (لم يحاول الإخوان المسلمون مثلاً التخلي عن عنوان المرجعية الإسلامية ليتسنَّى لهم الترخيص لحزب في عهد كما فعل حزب الوسط ) . ) مبارك

بل يتميز أيضًا بالخبرات المتراكمة لأبنائه، سواء من خلال المجالس المحلية والنيابية والجمعيات والنقابات، أو من خلال المشاريع الأهلية والشعبية داخل كل أحياء وقرى مصر، بدايةً من قوائم الفقراء والمحتاجين الذين حملوا إليهم مساهمات القادرين وأنشأوا الجسور المتواصلة بين طبقات المجتمع، مرورًا بقوافل العلاج والمشاريع الخدمية ولن يكون آخرها تلك الأسواق الشعبية المخفضة والمدعمة بجهد الإخوان ووقتهم دون استهداف لأي ربحية والتي حققوا من خلالها خدمة مشهودًا لها من كل المواطنين .

- إن عقودًا طويلة من الأداء الجدي لجماعة الإخوان المسلمين ليمد حزب الحرية والعدالة بذخائر ثرية من الخبرات والإمكانات البشرية والفنية والإدارية في كل المجالات والفنون، فقد قدمت الجماعة لكل ميادين المجتمع رموزًا ورجالات؛ فمن المستشار عبد القادر عودة، الفقيه الدستوري وعلامة التشريع الجنائي إلى الشيخ محمد الغزالي علم الدعاة، والشيخ سيد سابق الفقيه العلاَّمة، واضع أشمل وأحدث موسوعات الفقه، إلى عمر شاهين، رمز شهداء مصر وعلم شبابها في معارك القناة ضد المحتل البريطاني إلى نجيب الكيلاني، أحد رموز الرواية العربية، كما أخرجت الجماعة الشيخ يوسف القرضاوي، علامة الأمة، والشيخ صلاح أبو إسماعيل، أحد أعلام البرلمانيين في تاريخ مصر، والأستاذ الدكتور محمد بديع، مرشد الجماعة وأحد أهم مائة عالم عربي في الموسوعة العربية، وكذلك الدكتور زغلول النجار، أحد أهم علماء الجيولوجيا في العالم والحائز على العديد من الجوائز العالمية، ولن يكون آخرهم الدكتور العالم خالد عبد القادر عودة، أحد أهم أساتذة وخبراء الجيولوجيا في العالم، والذي كانت أحدث اكتشافاته هدية غير مسبوقة لمصر؛ حيث اكتشف ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف المليون فدان في قلب الصحراء الغربية قابلة للزراعة، وتحتها ما يكفيها من مستودعات مياه متجددة يمكن أن تغير وجه الحياه في مصر.

فقد تشعبت خبرات الإخوان في جميع مناحي الحياة؛ حتى لم يكن غريبًا أن العديد من مسارح قصور الثقافة مؤخرًا لم تشهد نشاطًا فنيًّا وإقبالاً جماهيريًّا إلا من خلال فرق الإخوان المسرحية، كما لا تزال المشاريع والدراسات التي قدمها أعضاء الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين في برلمان 2005 مثالاً على توافر الكوادر الصالحة المؤهلة التي ورثت ذخيرة تاريخية وخبرات متراكمة .

- وأخيرًا.. حزب الحرية والعدالة بثقله الجماهيري وقدرته التنظيمية يمثل كتلةً صلبةً في المشهد الوطني الحائر والذي تتخلله حالة سيولة وتفكك؛ مما يدفع بخيار الحزب ذي القاعدة الصلبة أن يتترس من ورائه المصريون حتى يجتازوا هذ المرحلة الحرجة التي باتت تكتنفها كثير من الشكوك والمخاطر .

ولم يعد غريبًا أن تنال هذه الجماعة وحزبها ثقة جماهير مصر العريقة التي أعرضت دومًا بوعيها الصادق عن محاولات التشويه والتشويش، وبقي أن تترجم هذه الثقة في الانتخابات الحالية من أجل خصم قوي وعنيد لا تنقصه الشجاعة ولا العزيمة في مواجهة جسد الفساد الباقي بصلفه وموارده متآمرًا على مستقبل هذه الأمة .