ومما ورد في حب الله

ومما ورد في حب الله تعالى :

قال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.

وفي بعض الكتب: عبدي أنا -وحقك - لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.

وقال يحيى بن معاذ:

إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتَهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك وأنا صغير، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.

وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به.


أحب الأعمال إلى الله

( أحب الأعمال إلى الله }
1 - أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
2- أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله .
3 - أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله .
4 - أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم .
5- أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور ٌ تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهرًا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضيً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزول الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
6- يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل .
{ هذه الأحاديث من تخريج السيوطي وتحقيق الألباني }

الثلاثاء، 27 أبريل 2010

أرواح نذرت أنفسها للحق

محمد فتح الله كولن
إن أهم جانب يستدعي النظر ويجلب التقدير والإعجاب عند الأبطال الذين أحبوا الله تعالى ونذروا حياتهم في سبيل رضاه وارتبطوا بغاية مُثلى هي نيل محبته.. إن أهم جانب لدى هؤلاء الأبطال وأهم مصدر من مصادر قوتهم، هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أهمية لأمور يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية... هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تشكل عندهم أي مقياس.إن القيمة الفكرية لهؤلاء الناذرين أرواحهم تعلو على القيم الدنيوية إلى درجة يصعب معها تحويل محور هدفهم المرتبط برضا الله دون أي غرض آخر ودون أي تنازل.
أما ربطهم بهدف بديل فمستحيل.
والحقيقة أن قلب كل منهم قد تعرض لتحول جذري من كل ما هو زائل وفانٍ إلى الباقي أبداً، لذا فلا يمكن قطعاً أن يتغير إلى شيء آخر، ولا أن يصعد إلى مستوى أعلى، لأنه يعلم يقيناً أنه لا يوجد مستوى أعلى من قضيته ومن فكرته... فهو قد نذر نفسه لإرشاد الناس إلى الحق تعالى وتحبيبه إليهم، لتحقيق الحصول على محبته تعالى، وربط حياته لإحياء نفوس الآخرين، ونأى بنفسه عن أي هدف عرضي وزائل، أي قلّص هدفه رافعاً من قيمته، ومخلصاً له من التشتت وموحداً قبلته... نظراً لكل هذا فلن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تفرق ولا تجمع، وتشتت ولا توحد وتقود إلى النزاع من أمثال "هم" و "نحن" أو "أنصارنا" و"أنصارهم". ولا توجد عندهم أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد، ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويُبدون عناية فائقة لعدم إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه.
وعندما يرون سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمحاربين غلاظ، بل كمرشدين رحماء يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق الفاضلة، ويسعون في هذه السبيل سعيا حثيثا، ويبذلون ما بوسعهم للابتعاد عن فكرة الحصول على نفوذ سياسي أو الوصول إلى مناصب مختلفة مهما كان الثمن وأياً كان الأسلوب.إن أهم ما يميز العمق الداخلي لهؤلاء الناذرين أرواحهم لله هو المعرفة وتقييمها، وأسس أخلاقية قويمة وسيادتها على كل مظاهر الحياة وميادينها، وفضيلة قائمة على الإيمان وعدم الاستغناء عنها. وهم يبدون اهتماماً خاصّاً للابتعاد عن كل شيء لا يفيد مستقبلهم ولا سيما حياتهم الأخروية من دعايات فارغة لجلب شهرة أو صيت أو نفع مادي، ويبذلون كل ما بوسعهم إلى درجة الإرهاق لتوجيه الذين يسيرون وراءهم أو يحترمونهم إلى المعاني الإنسانية السامية بجعل معارفهم وأفكارهم ذات مغزى بالامتثال بها كلٌّ حسب سعة أفقه.
وهم إذ يقومون بهذا لا يبتغون جزاء ولا شكوراً، ويحاولون أن يبتعدوا عن المصالح الشخصية والمنافع ويهربوا منها مثلما يهربون من الأفاعي والعقارب.
وهم يتصرفون هكذا كتحصيل حاصل لعمق غناهم النفسي الذي ينأى بهم عن كل نوع من أنواع الدعاية والضجيج وحب المظاهر، ويملكون من القوة ما يعصمهم عن هذه السفاسف. كما أن تصرفاتهم وسلوكهم النزيه والجميل الذي يعكس صدى أرواحهم يكون له من قوة الجاذبية والتأثير ما يسخر به كل مَنْ يعقل ما حوله فيجعله يسير وراءهم مسرعاً.لذا لا يدور بخلد أي واحد من هؤلاء أن يتكلم عن نفسه أو يتوسل إلى الدعاية لرفع شأنه ولا يظهر أي رغبة أو شهوة في نشر صيته.
وعوضاً عن هذا نراه يحاول بكل جهده ليبلغ مستوى حياة القلب والروح، رابطاً كل فعالياته هذه بالإخلاص ولا يبتغي غير وجه الله تعالى. وبتعبير آخر يهدف كل واحد منهم إلى نيل رضاء الله وحده ويسعى إلى هذا الهدف السامي بكل حوله وقوته، ولا يلوث أحد منهم عزمه الصارم -القريب من عزم الأنبياء- بالأغراض الدنيوية ولا بمحاولة الحصول على الصيت والشهرة بين الناس أو نيل إعجابهم.وبما أن الإيمان والإسلام والقرآن يتعرض اليوم إلى هجوم وانتقادات مباشرة وعلنية، وتثار الشبهات حولهم، كان من الواجب أن تتوجه الجهود جميعها نحو نقاط الهجوم هذه لتحصين الأفكار والمشاعر الإسلامية لدى الأفراد، وإنقاذ الجماهير من حياة سائبة لا هدف لها وربطهم وتوثيق صلتهم بالأفكار والأهداف العالية. ولا يمكن إشباع هذه الحاجة وإنقاذ الأفراد من اللهاث وراء البحث عن أهداف أخرى إلا بتقوية الإيمان في القلوب من جديد بكل ألوانه وزينته وجماله وأسلوب خطابه. وبعبارة أخرى توجيه الإنسان إلى الحياة الروحية والقلبية من جديد. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة، ولا سيما في عهد يرى فيه البعض ضرورة تغيير كل شيء، وتغيير بنية القالب الاجتماعي وتحويلها، ثم صبها في قوالب جديدة؛ لأن أية محاولات من هذا النوع تحمل في طياتها احتمال النزاع والشقاق والاحتكاك والتفرق، بينما لا نجد سوى التفاهم والوفاق والتعاون في أسلوب التوجيه الإيماني.لا تعيش الأرواح التي نذرت نفسها لرضا الحق تعالى أي فراغ في حياتها العقلية والمنطقية نتيجة توحيد قبلتها، بل تراهم منفتحين على الدوام على المنطق وعلى العلم ويعدون هذا من ضرورات الإيمان الحقيقي، مع ملاحظة أن الأهواء الدنيوية لهؤلاء والرغبات الجسدية لهم تذوب في حنايا قربهم من الله وتذوب في أعماق مشاعر وجو التوحيد عندهم الذي يشبه المحيطات في سعتها وأعماقها وأغوارها. لذا تنقلب هذه الرغبات عندهم إلى شكل آخر وإلى صورة أخرى... إلى ذوق روحاني نابع من رضا الله. لذا فإنه في الوقت الذي يتنفس فيه هؤلاء -الذين نذروا أنفسهم للحق تعالى- جواً ملائكياً في ذرى حياتهم الروحية والقلبية تراهم يتعاملون مع أهل الدنيا أيضاً ولا يتأخرون عن استعمال جميع حقوقهم الدنيوية المشروعة. لذا يُعَدّون من جانبٍ أهل دنيا لأنهم يتوسلون بالأسباب ويستعينون بها ويراعونها، ومن جانب آخر يعدون من أهل الآخرة لأنهم يستثمرون كل شيء وكل مسألة من زاوية حياتهم الروحية والقلبية. ولا يعني قيام حياتهم الروحية والقلبية بتحديد حياتهم الدنيوية بدرجة ما أنهم يهملون الحياة الدنيوية ويتركونها تماماً أو ينعزلون عنها تماماً، على العكس فهم يقفون كل حين في وسط الدنيا منخرطين فيها. ولكن موقفهم هذا ليس من أجل الدنيا ولا باسمها، بل باسم الله ورعاية للأسباب ولربط كل شيء بالآخرة.والحقيقة أن هذا هو السبيل الوحيد لإبقاء الجسد في إطاره والروح في أفقه، أو ربط الحياة وجعلها تحت إمرة القلب والروح. فإطار حياة البدن محدود بالمقياس الضيق للجسد، لذا يجب أن يتوجه أفق الحياة الروحية المتطلعة إلى الخلود نحو اللاتناهي على الدوام. وهكذا فإن قام الإنسان -باعتبار هذا المستوى لأفق حياته- بالتعامل مع الأفكار السامية في كل حال من أحواله، ووجّه حياته لواهبها ورأى أن الإحياء أعمق شيء في الحياة، ورنا بنظره نحو الذرى على الدوام تحول -أراد ذلك أم لم يرد- إلى شخص يطبق برمجة سامية. لذا يقوم بلجم أهوائه وبتضييق أذواقه الشخصية ولكن ضمن إطار معين.لا شك أن القيام بتوجيه الحياة وتسييرها وفق هذا العمق ليس أمراً هيناً، ولكن هذه الصعوبة سرعان ما تتحول إلى أمر هين عند من نذر نفسه لله، وجعل غاية حياته تعريف خالقه للناس وتحبيبه إليهم، وتراه يدق بإحدى يديه على أبواب قلوب الناس ويدق بيده الأخرى على باب رحمة الحق تعالى، فهو في حركة دائبة بين هذين الأمرين رامياً هداية الجميع وتوجيههم إلى الباري عز وجل.والحقيقة أن من يشعر بدفء الإيمان بالله تعالى في أعماقه.. ويسعى ليعبر عن هذا بلسان قلبه وجذوة فؤاده خشية منه سبحانه حيناً وحباً له أحياناً أخرى.. مثل هذا الإنسان لن يواجه أي صعوبة في أي أمر، إذ كلما قصر تفكيره ونظره في الله تعالى، وفي البحث عن سبل الوصول إليه، وتقييم كل وسيلة حسب تقريبها وتوصيلها إليه... كلما جعله الحق تعالى محط نظره وعنايته الخاصة موقَّراً ومُحترَماً من قبل الجميع، أي إنه في مقابل وفاء أرضي ضئيل، يكون الوفاء السماوي أضعافاً مضاعفة. وهاكم قطرة واحدة بسعة البحار من هذا الوفاء: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأنعام:52). ولم يكن هؤلاء الذين نبه الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بعدم طردهم من مجلسه سوى المداومين على حضور مجلسه من الذين نذروا أنفسهم لرضا الله تعالى.وحسب درجة الإخلاص في هذا النذر، وكونه صادراً من صميم القلب نرى عطفاً خاصّاً من الحق تعالى نحوهم، وإسباغ فضل خاص عليهم. أجل!.. بقدر ارتباط المرء بالله تعالى ومحاولة كسب رضاه وجعل هذا الأمر غاية حياته وهدفها يلقى أفضال الله عليه وأنعمه ويكون موضوع حوار في عوالم ما وراء السماوات. كل فكر لمثل هذا الإنسان في الدنيا وكل كلام أو سلوك وتصرف يضمخه الإخلاص ويعطره يتحول في ذلك العالم الآخر إلى جو من النور وإلى صحائف تقدير مبهجة. وهؤلاء السعداء الذين ملأوا أشرعتهم بنسائم هذه السعادة المقدسة يهرولون إليه مسرعين على الدوام فضلاً منه تعالى حسب عمق إخلاصهم، ولا يقف أمامهم أي عائق. والصورة التي يرسمها القرآن لهؤلاء تستحق التأمل: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(النور:37-38).إن أمثال هؤلاء الأبطال من ذوي الأرواح التي تخلصت من كل أنواع الأسر وألوان القيود، والذين رموا أعباء كل أحزانهم وهمومهم عن أكتافهم بتسليم أنفسهم لله والتوكل عليه، قد وجدوا كل شيء، إذ بجانب الأفضال والهبات التي حصلوا عليها في عالم القلب والروح لا تعني جميع النعم الدنيوية الغالية والأهواء والمباهج إلا كفضلات الطعام والأقداح الفارغة فوق الموائد.. وتجاه لوحات الجمال وصورها التي تزين عوالم قلوبهم لا تعد الدنيا وما فيها إلا خرافة من الخرافات أو أسطورة من الأساطير. وما قيمة شيء يخضر في الربيع ثم يبهت لونه في الخريف..! فإن الأرواح التي تعي هذه الحقيقة وتعايشها على الدوام وترنو ببصرها إلى الخلود والبقاء، ترسم إشارة الضرب على كل شيء لا يحمل صفة الأبدية وتدير ظهرها له، وتسير في طريقها دون الالتفات نحوه... تسير في درب القلب إلى بساتين الأبد وحدائق الخلود، ولا تلوي إلى الدنيا ولا إلى زخارفها.

الأحد، 18 أبريل 2010

من ثمرات التلاوة

سورة الذاريات

من ثمرات التلاوة :
سورة الذاريات :
الحمد لله رب العالمين منزل الكتاب المبين هدى ورحمة للعالمين والصلاة والسلام على خير داع ٍ إلى الصراط المستقيم وعلى آله وأصحابه أجمعين .
تبدأ السورة الكريمة بالتأكيد على حتمية الحساب يوم القيامة ، وعلى وقوع الاختلاف بين الناس في قبول الحق ورفضه وقد وعد الله المؤمنين بالجزاء الكريم وتوعد الكافرين بالعذاب الأليم .
وكان القسم هو أداة التوكيد ، والمقسِم هو الله سبحانه وتعالى ، والمقسَم به مختارات مما أبدع الله في هذا الكون المنظور .
وآيات السورة تهدف إلى أن يفر الناس إلى الله ربهم فهو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ولا ينبغي أن يعوقهم عن ربهم طلب الرزق فقد تكفل الله بهذه القضية .
يفرون إلى الله بالإيمان والتوحيد ، والاستسلام والانقياد ، يفرون إلى الله من إغراء الشهوات ، وتلبيس الشبهات .
فلن تجد النفوس راحتها إلا في كنفه ولن تجد سعادتها إلا في رحابه .
فليتجه الناس إلى ربهم إيمانا به وليكفروا بما سواه ؛ فهو وحده الخالق الذي يملك الأعمار والأرزاق . وإليه مرجع الناس وحسابهم يوم القيامة . فهو إذن المستحق للعبادة دون سواه .
وتعرض الآيات صفات المتقين ولكنها تعرض الجزاء أولا ، كأن المبادرة بذكر المتقين وطمأنتهم على جزائهم محبب إلى الله الودود :
( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) .
وهذه الصفات تشمل حب الوقوف بين يدي الله والتوبة والاستغفار والتعبد والانكسار والرحمة بعباد الله المحتاجين ومد يد العون للمحرومين .
وكأن هاتين الصفتين أصل لكل صفات الخير ، وهي حسن التعامل مع الله وحسن التعامل مع الناس .
وتعرض السورة لقضية الرزق :
فعرضت في أولها القسم بالرياح والسفن وهي من أسباب الرزق .
والرياح أحيانا تذرو فتقطع السحب وتمنع المطر ، وأحيانا تحمل السحب لينزل الغيث حيث يريد الله .
وتأتي إشارة أخرى في قوله سبحانه : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) ثم يعقب بالقسم توكيدا لهذا الأمر .
وإشارة ثالثة بالرزق من نوع آخر وهو الرزق بالولد بعد الشيب والكبر .
وإبراهيم عليه السلام لم يبخل بالرزق عن الأضياف .
وفي آخر السورة : ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) .
وتعرض السورة الكريمة لمصارع المكذبين ، ويأتي العرض سريعًا حسبما يقتضيه جو السورة القصيرة .
ويأتي أول التكذيب على لسان فرعون ( فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون ) مع أنه ليس أسبقهم زمنا ، ولكن السورة ذكرته أول المكذبين .
ولعل ذلك لتطاوله الشديد ، وعلو كعبه في التكذيب !
وجاء في آخر هذا المقطع :
( وكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) فكانت سمة مشتركة تمليها طبيعة الطغيان ، وتدفعهم إليها صفة العلو والمكابرة في الأرض بغير الحق .
تولى بركنه ، معتمدا على جنده وسلاحه يدفعه غروره وعناده ، وليس بمعجز في الأرض .
مع أن الله عز وجل أرسل إليه موسى وهارون بالآيات والسلطان المبين .
فما كان جوابه إلا أن قال ساحر أو مجنون .
فهل استفادوا من الآيات المتتابعة ، والحجج القاطعة التي قرعت قلوبهم وبهرت عقولهم ؟ أم هو العناد والاستكبار ؟ .
وقد جاءتهم تسع آيات بينات ، ولكن ماذا تفيد الآيات للمفسدين في الأرض ، المسرفين في الكفر المتمادين في الطغيان ؟
وقد سجل القرآن عليهم ذلك في سورة القمر ({وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ }القمر42 .
وكم من فرعون يتولى بركنه ، ويقول ساحر أو مجنون !
وتتكرر النسخ المتألهة في الأزمان المتعاقبة ولم يقف أحدهم على ما حدث للفراعين السابقين ( أتواصوا به ! ) .
(بل هم قوم طاغون ) .
والكل يفر ولكنهم فريقان :
فالمؤمنون يفرون من الله إليه .
والكافرون يفرون من الله إلى غيره ، وهم في النهاية واقعون في قبضته !
وتبين الآيات حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية قومه وهو يدعوهم أن يفروا إلى الله ، مع التأكيد بأنه نذير مبين .
( فتول عنهم فما أنت بملوم ) فقد أدى الرسول ما عليه : بلغ الرسالة وأدى الأمانة .
ولكن التذكير يستمر فإن هذه الذكرى إن لم ينتفع بها أحد فسينتفع بها المؤمنون ، الذين يفرحون بما أنزل الله إليهم مسرورين بمنهج الله الذي أنار حياتهم {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأنعام122 .
{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }يونس58.
ويأتي بيان الهدف من خلق الثقلين وهو أمر العبادة لله وحده ووجوب إزاحة العقبات من طريق هذا الهدف ، ومنها الانشغال بالرزق عن العبادة .
وقد أتت إشارة مماثلة في سورة الجمعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) .
وفي سورة المنافقون : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) .
وتختم السورة الكريمة بالوعيد الشديد للذين يصرون على الانحياز إلى طريق الكفر والبوار سواء من قريش ومَن حولَهم أو من بعدهم في الأزمان اللاحقة فسيصيبهم من العذاب كما أصاب الأقوام المذكورة في الآيات السابقة : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) .
وقد جاء في أول السورة ( إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع ) .
وختمت بمثل هذه البداية . حيث أكد لهم وقوع العذاب في يومهم الذي يوعدون كما وقع بأمثالهم من الكافرين .
والحمد لله أولا وآخرا.