بسم الله الرحمن الرحيم
المحبة لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ( بتصرف ) .
الحمد لله رب العالمين ، اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلينا ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا ، واقطع عنا حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وحده لا شريك له ، ناجاه نبيه داود فقال له : " يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك فقال الله عز وجل ، أحب عبادي إلي ، تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي ، فقال داود : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ، قال يا داود ذكرهم بآلائي ، ونعمائي وبلائي " .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، وخيرته من خلقه وصفيّه ، دعا ربه في الطائف ، وقد لاقى من التكذيب والإيذاء ما لا يستطيع بشرٌ على الإطلاق أن يتحمله إلا أن يكون نبياً ، دعا ربه فقال : إنْ لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، لك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي)) .
اللهم صل ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته أعلام الهدى ، وأبطال الوغى ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
من خلال التأمل الدقيق ، والنقل الصحيح ، يتضح أن الإنسان هو المخلوق الأول والمكرم ، بدليل أن الكون كله ، بسماواته وأرضه مسخر له ، تسخير تعريف وتكريم ، فإذا آمن الإنسان ، بأنه خالق عظيم ، ورب كريم ، ومسير حكيم، خلقه في أحسن تقويم ، وكرّمه أحسن تكريم ، وفضله على كثير من العالمين ، أنعم عليه بنعمة الإيجاد وبنعمة الإمداد ، و بنعمة الهدى والرشاد .
إن هذا الإيمان ، وذاك العرفان يحملان الإنسان على محبة خالقه ومربيه ، فالإنسان بعقله يؤمن ، وبقلبه يحب ، وهل الإنسان إلا عقل يدرك ، وقلب يحب .. وقد ورد في الأثر : ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً)) .
وورد في الخبر ، أنه لا إيمان لمن لا محبة له ، فالإيمان والحب متلازمان ، تلازم الروح وبالجسد ، فما قيمة الجسد من دون روح كذلك ما قيمة الإيمان من دون حب ، وإذا صحَّ أن العقل للإنسان كالمقود للمركبة ، يقودها على الطريق الصحيح ونحو الهدف الصحيح، فإنه يصحُّ أيضاً أن القلب للإنسان كالمحرك لهذه المركبة ، يحرِّكها على هذه الطريق ونحو ذلك الهدف .. فما قيمة المقود من دون محرك ؟ إنه الجمود والموت ، وما قيمة المحرك من دون مقود ؟ إنه الهلاك والدمار .
المحبة هي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الموات ، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، وهي الشفاء الذي من عَدِمه حلَّت به الأسقام ، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك :((ثلاث من كُنَّ فيه ، وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يُحبَّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر ، بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يُلقى في النار)) . [متفق عليه]
فإذا عرف الإنسان ربه أحبه ، وإذا أحبه خطب وده ، فاستقام على أمره ، وعمل الصالحات ، ابتغاء وجهه ، عندئذ يجد حلاوة الإيمان بعد أن ذاق جحيم الكفر ، إن الإنسان وقد عرف هذه المعرفة ، وذاق هذه الحلاوة ، يصبح شغله الشاغل ، التقرب من المحبوب ، يقول الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، في حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري : ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأُعطينه ، ولئن استعاذني لأُعيذنه)) .
كثيرون هم الذين يدّعون محبة الله ورسوله ، ولا تجد في أعمالهم ما يُثبت ذلك ، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى ، وما ابتلوا ، ولو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي ، لذلك طولب المدَّعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم ، فقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }آل عمران31
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه هذا لعمري في المقال بديـعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيـعُ
***
ولقد ردَّ الله عز وجل على هؤلاء الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال : {{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }المائدة18 .
ومن هنا استنبط الإمام الشافعي - رحمه الله - أن الله لا يعذب أحبابه .
محبة الله أصل : ومن فروعها :
1 - محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس أحد بعد الله تعالى أمنَّ علينا في هدايتنا ، وسعادتنا من رسولنا صلى الله عليه وسلم . ( لقدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) [سورة التوبة]
لذلك قُرنت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمحبة الله تعالى في معظم آيات القرآن، وفي السنة المطهرة ، قال تعالى : ({قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }التوبة24
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)) .
بل إن إرضاء الله ، هو عين إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله ، قال تعالى : َاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }التوبة62
هكذا بضمير المفرد .. ولم يقل " يرضوهما " بضمير المثنى ، وكذلك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة الله تعالى ، حيث يقول : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) .النساء 80
وهذا خصم عنيد من خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة : ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً .
وإليكم نموذجين من هذه المحبة :
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له ، قليل الصبر عنه ، أتاه ذات ليلة وقد تغير لونه ، ونحل جسمه وعُرف ذلك في وجهه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :((يا ثوبان ما غير لونك " ؟ فقال : يا رسول الله ، ما بي وجع ولا ضرٌّ غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديـدة حتى ألقاك ، ولولا أني أجيء فأنظر إليك ، لظننــت أن نفسي تخرج - أي أموت - ثم ذكرت الآخرة ، وأخاف ألا أراك هناك ، لأني عرفت أنك مع النبيين ، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً)) ، لكن الله جل في علاه أجابه عن تساؤله في القرآن الكريم فقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }النساء69 .
نموذج آخر : امرأة أنصارية من بني دينار ، تسمع إشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، في أُحد ، فيؤلمها النبأ ، وتخرج لتستجلي الحقيقة ، وتمر على أرض المعركة ، وتجدُ في الشهداء ابنها وزوجها وأخاها ، فلا تقف عندهم ، بل تندفع باحثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل عنه كل من لقيت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : أمامك حتى وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، واطمأنت على سلامته ، فأخذت بطرف ثوبه ، ثم قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( هينة ) ولا أبالي ما سلمت من عطب .
أية امرأة أنتِ ؟ لله درك ..
ولو أن النساء كمن رأينـا لفُضِّلت النساء على الرجال .
محبة الله أصل ، ومن فروعها محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، والذين جاهدوا معه حق الجهاد ، وبذلوا من أجل انتشار الحق كل غالٍ ورخيص ، ونفس ونفيس ، والذين رضي الله عنهم جمعياً ، والذين وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : ((علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) .
وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم وفاءً لحق صحبتهم وتقديراً لمكانتهم ألا نخوض فيما بينهم ، فقال : ((إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا)) .
[رواه الطبراني في الكبير ، عن ابن مسعود]
وقال : ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًاما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه فهم كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
فهؤلاء الأصحاب ، بإيمانهم ، وثباتهم ، وبطولاتهم ، وولائهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ، ويكنسوا إلى الأبد وثنية القرون ، فأيُّ بذل هذا الذي بذلوا ، وأي هولٍ هذا الذي احتملوا ، وأيُّ فوزٍ هذا الذي أحرزوا .
محبة الله أصل ، ومن فروعها:
2 - محبة المؤمنين : تلك المحبة التي تؤلف القلوب ، وتوحد الصفوف ، وتبني المجتمعات ، وتصنع المعجزات ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين في توادهم ، وتعاطفهم ، وتراحمهم بالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وهم كالبنيان المرصوص ، يشدُّ بعضه بعضاً ، وهم لبعضهم بعضاً ، نصحةٌ متوادُّون ، ولو ابتعدت منازلهم ، بينما المنافقون بعضهم لبعض ، غششةٌ متحاسدون ولو اقتربت منازلهم .
لذلك .. يجب ألا نعجب إذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم حب المؤمنين علامة كافية على صحة الإيمان ، وصدقه ، بل جعل محبة المؤمنين شرطاً وحيداً لوجود الإيمان في الرجل فقال :((والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا)) .[أخرجه مسلم في صحيحه رقم 93 ، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة ]
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس ، اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم ، وقربهم من الله ، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى الني صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ناسٌ من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم ، وقربهم من الله انعتهم لنا ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي فقال : هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابُّوا في الله وتصافوا يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، فيجعل وجوههم نوراً ، وثيابهم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة وهم لا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) .
وفي الحديث القدسي : ((وجبت محبتي للمتحابين فيَّ وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ)) .أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير
وأي فضل هذا الذي يحرزه المؤمن إذا أحب أخاه ؟ . وجوب محبة الله له ! ما أعظم الثمن , وما أحسن العمل وما أسهله .
وفي حديث آخر :
((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)) .
[أخرجه الترمذي في كتاب الزهد 2390 ، وقال حسن صحيح]
وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وفي رواية : ((وحتى يكره له ما يكره لنفسه)) ، فالمراد بأحدكم في الحديث : كل المسلمين في كل العصور ، وكل الأمصار ، لرواية أخرى تقول : ((لا يؤمن أحدٌ أو عبدٌ )) ، وإن كان بهذه الصيغة خاصًا بالمشافهين ، الذين عاصروا النبي ، والمراد بالأخ في الحديث من له أخوة الإسلام مطلقًا .. كما ورد في بعض الروايات : ((لأخيه المسلم)) ، فالمسلمون على اختلاف شعوبهم ، وقبائلهم، وديارهم ، وألسنتهم ، وألوانهم هم أسرة واحدة ، قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات10.
ويستفاد من كلمة إخوة التي تعني أخوة النسب أن أخوة الإيمان أعلى درجات الأخوة، ويستفاد من كلمة إنما : أن الأخوة الحقة قاصرة على المؤمنين ، وكل علاقة أخرى لا تقوم على الإيمان ، علاقة أساسها المنافع تدوم بدوامها ، وتزول بزوالها ، وفي رواية للنسائي: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، من الخير)) ، وهذه الكلمة : ((من الخير)) قيد لا بد منه ، لأن من كان يحب لنفسه شيئاً من المشتهيات المحرمة ، ليس من الإيمان أن يحب لأخيه مثلها ، فالمراد ((بالخير)) في الحديث ما هو خير شرعاً ، والخير الشرعي يتناول الحظوظ الأخروية كلها ، كالعلم النافع ، والعمل الصالح ، والعبادة الخالصة ، والعاقبة الحُسنى .. ولا يتناول من حظوظ الدنيا إلا ما كان مباحاً غير مذموم ، كسعة الرزق من الحلال ، ونجابة الأولاد ، وطول العمر ، والسلامة من المكاره.
والذي رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل فسلم عليه ، ثم جلس فقال له ابن عباس : يا فلان ، أراك مكتئبا حزيناً؟ قال : نعم ، يا ابن عم رسول الله ؛ لفلان عليَّ حق ولاءٍ ، وحرمةِ صاحب هذا القبر ما أقدر عليه .. قال ابن عباس : ألا أكلمه فيك ؟ قال : إن أحببت ، قال : فانتعل ابن عباس ، ثم خرج من المسجد ، فقال له رجل : أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر ، والعهد به قريب ، فدمعت عيناه ، وهو يقول : ((من مشى في حاجة أخيه ، وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق ، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)) .
[ورد في كنز العمال 24019 ،ورواه الخطيب وقال غريب ورواه الطبراني في الكبير ورواه الحاكم]
وفي الحديث : ((لأن أمشي مع أخٍ لي في حاجة ، خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا)) .
[أورده السيوطي في الجامع الصغير ]
ومن ثمار المحبة بين المؤمنين إذًا، التراحم ، والتعاون ، والتضامن ، والتكافل ، والمؤاثرة ، فقد أمر الله المؤمنين بالتعاون فيما بينهم ، إلا أنه قيد التعاون بأن يكون تعاوناً على البر والتقوى ، لا تعاوناً على الإثم والعدوان .. قال تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة
قال علماء التفسير : التعاون على البر هو التعاون على صلاح الدنيا ، والتعاون على التقوى هو التعاون على صلاح الآخرة ، وفي الدعاء النبوي الشريف : ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)). أخرجه مسلم
فمن التعاون : التناجي بين المؤمنين في صلاح دنياهم وآخرتهم ، والمشاركة في إبداء الآراء ، وتوضيح الحقائق ، وتشخيص المشكلات ، والبحث عن الحلول ، وتذليل العقبات ، فليس من سمات المؤمن الصادق الفردية والانعزالية والسلبية ، والهروب من حلِّ المشكلات ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المجادلة9 .
لذلك تُعدُّ الشورى من مظاهر التعاون الفكري ، أمر بها رسوله فقال : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) آل عمران159 .
ووصف بها المؤمنين فقال : ( وأمرهم شورى بينهم ) . الشورى 38 .
ومن التعاون بين المؤمنين تنفيس الكروب وتيسير الخطوب وستر العيوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة برواية مسلم :((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .
فتنفيس الكروب هو تفريجها وإزالتها ، والكروب جمع كربة ، وهي الحزن والغم ، الذي يأخذ بالنفس فيضغط عليها ضغطاً مؤلماً ، وهنا يأتي دور المؤمن في مساعدة أخيه في تنفيس كربة ، فإذا كانت كربة أخيه من جهة فقره ، وحاجته ساعده حتى يسدَّ حاجته ، ويرفع عنه ضرورته ، سواء أكان ذلك في ماله ، أم في سعيه الحسن ، وإن كانت كربة أخيه بسبب حاجته إلى قرض حسن ليدفع ضرورة مُلحَّة أقرضه ، وإن كانت كربة أخيه بسبب مصيبة حلَّت به واساه ، وساعده حتى تنفرج عنه الكربة ، وإن كانت بسبب حاجته إلى شفاعة حسنة شفع له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى زواج سعى بتزويجه ، وإن كانت بسبب حاجته إلى عمل ، سعى في تهيئة العمل الملائم له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى تداوٍ من علة جسمية أو نفسية ، سعى له في العلاج المناسب حتى يُنفِّس عنه كربته .. وقل مثل ذلك في التيسير والستر والمعونة .
محبة الله أصل ، ومن فروعها :
3 - أن تنصف الناس جميعًا على اختلاف مللهم ونحلهم ، وأن ترحمهم ، وتُعينهم في أمر دينهم ودنياهم ، لأن الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي عن الرجل انتماءه للإسلام إذا غش كائناً من كان فقال : ((ليس منا من غش)) .
[رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة ]
محبة الله أصل ، ومن فروعها
4 - أن ترفق بالمخلوقات جميعًا ، وأن ترحمهم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله من مثَّل بالحيوان)) .
[رواه البخاري ومسلم ]
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب صبرًا ، ونهى عن التحريش بين البهائم ، وأن يتخذ شيء من الروح غرضًا ، أي هدفًا في الرمي ، روى الإمام البخاري أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) .
وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((غُفر لامرأة مرَّت بكلب على رأس بئر يلهث يكاد يقتله العطش فنزعت خُفَّها ، فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك)) .
§ كيف تكون المحبة والألفة ؟ وما شروطها وموجباتها ؟ وما ثمارها ونتائجها ؟
يقول الله تبارك وتعالى : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }الأنفال63
يتضح ذلك كله من قصة عمير بن وهب الجمحي الذي نجا من الموت في معركة بدر ، وخلَّف ابنه وهباً أسيراً في أيدي المسلمين .. جلس ذات يوم في فناء الكعبة ، مع صفوان بن أمية ، سيد قريش وزعيم الشرك ، يتذاكران بدراً ، فقال عمير لصفوان : ورب الكعبة ، لولا ديون عليَّ ليس عندي ما أقضيها ، وعيال أخشى عليهم الضياع من بعدي لمضيت إلى محمد، وقتلته ، وحسمتُ أمره ، وأرحتكم منه ، فقال صفوان : يا عمير ، اجعل دينك كله علي ، فأنا أقضيه عنك مهما بلغ ، وأما عيالك فسأضمهم إلى عيالي ما امتدت بي وبهم الحياة ، وإن في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً ، ويكفل لهم العيش الرغيد ، فامض لما أردت ، عندها أمر عمير بسيفه فشُحِذ ، وسُقيَ سماً ، ودعا براحلته فأعدّت ، وقُدِّمت له ، ويمم وجهه شطر المدينة ، وملء برديه الضغينة والشر ، ولما بلغها مضى نحو المسجد ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمحه سيدنا عمر رضي الله عنه ، وهو على باب المسجد ، فأقبل عليه ، وأخذ بتلابيبه ، وطوَّق عنقه بحمالة سيفه ، ومضى به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب جاء يريد شرًا .. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال قال لعمر : أطلقه ، فأطلقه ، ثم قال له : استأخر عنه ، فتأخر عنه، ثم توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير ، وقال له : ادن مني يا عمير ، فدنا فقال له : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت أرجو فكاك هذا الأسير ، الذي في أيديكم فقال له: فما بال هذا السيف الذي في عنقك ؟ قال : قبَّحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تقل لصفوان في فناء الكعبة عند الحجر : لولا دين عليَّ ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً ، فتحمَّل لك صفوان بن أمية دينك وعيالك على أن تقتلني ، والله حائلٌ بينك وبين ذلك ، فذهل عمير .. وقال : أشهد أنك لرسول الله ، لأن خبري مع صفوان لم يعلم به أحد إلا أنا وهو ، ووالله لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، ليهديني إلى الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم : ((فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا أسيره .. ففعلوا)) .
[كنز العمال 13/37455]
وموطن الشاهد في هذه القصة ، أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال بعد أن آمن عمير بن وهب بالله ورسوله ، واصطلح مع الله ورسوله : دخل عمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والخنزير أحبُّ إلي منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إلي من بعض أبنائي ، ولنذكر قوله تعالى :( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) . [سورة آل عمران]
حينما نؤمن بالحقيقة نفسها ، ونسعى لهدف واحد ، ونسلك سبيلاً واحداً ، وحينما نتمثل القيم الإنسانية الرفيعة ، ونتخلق بالأخلاق الأصيلة التي تسمو عن الزمان والمكان يكون اللقاء حتمياً ، والحب صادقاً والتعاون مثمراً ، وتحقق خلافة الإنسان في الأرض وتصبح البشرية في أرقى أطوارها .
وهكذا ترى أن حب العبد لربه ومولاه وما بتبعه من حب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحب المؤمنين , وحب الخير لهم ولكل المسلمين , بل لكل الناس , والشفقة بالحيوان – ترى أنه أمر تصلح به الدنيا , وتسعد به الحياة , أفرادًا ومجتمعات, ومن فقد هذا الشعور وخلا قلبه منه وأد حياته أو أخذ بها جانبًا بعيدًا عن السعداء
وخاض في واد التيه مع الأشقياء .
ونحتم قولنا بالدعاء :
لندع الله مخلصين كما أمرنا ، فالله جل في علاه لا يحب العمل المشترك , ولا القلب المشترك . فالعمل المشترك لا يقبله الله ، " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك "، والقلب المشترك لا يقبل عليه أصلا .
اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، وحب كل عمل صالح يبلغنا حبك .
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله قوةً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأموالنا والناس أجمعين .
اللهم ارزقنا حب الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين .وانصر ألإسلام والمسلمين في كل مكان . آمين .
المحبة لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ( بتصرف ) .
الحمد لله رب العالمين ، اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلينا ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا ، واقطع عنا حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وحده لا شريك له ، ناجاه نبيه داود فقال له : " يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك فقال الله عز وجل ، أحب عبادي إلي ، تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي ، فقال داود : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ، قال يا داود ذكرهم بآلائي ، ونعمائي وبلائي " .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، وخيرته من خلقه وصفيّه ، دعا ربه في الطائف ، وقد لاقى من التكذيب والإيذاء ما لا يستطيع بشرٌ على الإطلاق أن يتحمله إلا أن يكون نبياً ، دعا ربه فقال : إنْ لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، لك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي)) .
اللهم صل ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته أعلام الهدى ، وأبطال الوغى ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
من خلال التأمل الدقيق ، والنقل الصحيح ، يتضح أن الإنسان هو المخلوق الأول والمكرم ، بدليل أن الكون كله ، بسماواته وأرضه مسخر له ، تسخير تعريف وتكريم ، فإذا آمن الإنسان ، بأنه خالق عظيم ، ورب كريم ، ومسير حكيم، خلقه في أحسن تقويم ، وكرّمه أحسن تكريم ، وفضله على كثير من العالمين ، أنعم عليه بنعمة الإيجاد وبنعمة الإمداد ، و بنعمة الهدى والرشاد .
إن هذا الإيمان ، وذاك العرفان يحملان الإنسان على محبة خالقه ومربيه ، فالإنسان بعقله يؤمن ، وبقلبه يحب ، وهل الإنسان إلا عقل يدرك ، وقلب يحب .. وقد ورد في الأثر : ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً)) .
وورد في الخبر ، أنه لا إيمان لمن لا محبة له ، فالإيمان والحب متلازمان ، تلازم الروح وبالجسد ، فما قيمة الجسد من دون روح كذلك ما قيمة الإيمان من دون حب ، وإذا صحَّ أن العقل للإنسان كالمقود للمركبة ، يقودها على الطريق الصحيح ونحو الهدف الصحيح، فإنه يصحُّ أيضاً أن القلب للإنسان كالمحرك لهذه المركبة ، يحرِّكها على هذه الطريق ونحو ذلك الهدف .. فما قيمة المقود من دون محرك ؟ إنه الجمود والموت ، وما قيمة المحرك من دون مقود ؟ إنه الهلاك والدمار .
المحبة هي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الموات ، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، وهي الشفاء الذي من عَدِمه حلَّت به الأسقام ، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك :((ثلاث من كُنَّ فيه ، وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يُحبَّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر ، بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يُلقى في النار)) . [متفق عليه]
فإذا عرف الإنسان ربه أحبه ، وإذا أحبه خطب وده ، فاستقام على أمره ، وعمل الصالحات ، ابتغاء وجهه ، عندئذ يجد حلاوة الإيمان بعد أن ذاق جحيم الكفر ، إن الإنسان وقد عرف هذه المعرفة ، وذاق هذه الحلاوة ، يصبح شغله الشاغل ، التقرب من المحبوب ، يقول الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، في حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري : ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأُعطينه ، ولئن استعاذني لأُعيذنه)) .
كثيرون هم الذين يدّعون محبة الله ورسوله ، ولا تجد في أعمالهم ما يُثبت ذلك ، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى ، وما ابتلوا ، ولو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي ، لذلك طولب المدَّعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم ، فقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }آل عمران31
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه هذا لعمري في المقال بديـعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيـعُ
***
ولقد ردَّ الله عز وجل على هؤلاء الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال : {{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }المائدة18 .
ومن هنا استنبط الإمام الشافعي - رحمه الله - أن الله لا يعذب أحبابه .
محبة الله أصل : ومن فروعها :
1 - محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس أحد بعد الله تعالى أمنَّ علينا في هدايتنا ، وسعادتنا من رسولنا صلى الله عليه وسلم . ( لقدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) [سورة التوبة]
لذلك قُرنت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمحبة الله تعالى في معظم آيات القرآن، وفي السنة المطهرة ، قال تعالى : ({قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }التوبة24
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)) .
بل إن إرضاء الله ، هو عين إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله ، قال تعالى : َاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }التوبة62
هكذا بضمير المفرد .. ولم يقل " يرضوهما " بضمير المثنى ، وكذلك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة الله تعالى ، حيث يقول : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) .النساء 80
وهذا خصم عنيد من خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة : ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً .
وإليكم نموذجين من هذه المحبة :
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له ، قليل الصبر عنه ، أتاه ذات ليلة وقد تغير لونه ، ونحل جسمه وعُرف ذلك في وجهه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :((يا ثوبان ما غير لونك " ؟ فقال : يا رسول الله ، ما بي وجع ولا ضرٌّ غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديـدة حتى ألقاك ، ولولا أني أجيء فأنظر إليك ، لظننــت أن نفسي تخرج - أي أموت - ثم ذكرت الآخرة ، وأخاف ألا أراك هناك ، لأني عرفت أنك مع النبيين ، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً)) ، لكن الله جل في علاه أجابه عن تساؤله في القرآن الكريم فقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }النساء69 .
نموذج آخر : امرأة أنصارية من بني دينار ، تسمع إشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، في أُحد ، فيؤلمها النبأ ، وتخرج لتستجلي الحقيقة ، وتمر على أرض المعركة ، وتجدُ في الشهداء ابنها وزوجها وأخاها ، فلا تقف عندهم ، بل تندفع باحثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل عنه كل من لقيت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : أمامك حتى وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، واطمأنت على سلامته ، فأخذت بطرف ثوبه ، ثم قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( هينة ) ولا أبالي ما سلمت من عطب .
أية امرأة أنتِ ؟ لله درك ..
ولو أن النساء كمن رأينـا لفُضِّلت النساء على الرجال .
محبة الله أصل ، ومن فروعها محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، والذين جاهدوا معه حق الجهاد ، وبذلوا من أجل انتشار الحق كل غالٍ ورخيص ، ونفس ونفيس ، والذين رضي الله عنهم جمعياً ، والذين وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : ((علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) .
وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم وفاءً لحق صحبتهم وتقديراً لمكانتهم ألا نخوض فيما بينهم ، فقال : ((إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا)) .
[رواه الطبراني في الكبير ، عن ابن مسعود]
وقال : ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًاما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه فهم كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
فهؤلاء الأصحاب ، بإيمانهم ، وثباتهم ، وبطولاتهم ، وولائهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ، ويكنسوا إلى الأبد وثنية القرون ، فأيُّ بذل هذا الذي بذلوا ، وأي هولٍ هذا الذي احتملوا ، وأيُّ فوزٍ هذا الذي أحرزوا .
محبة الله أصل ، ومن فروعها:
2 - محبة المؤمنين : تلك المحبة التي تؤلف القلوب ، وتوحد الصفوف ، وتبني المجتمعات ، وتصنع المعجزات ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين في توادهم ، وتعاطفهم ، وتراحمهم بالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وهم كالبنيان المرصوص ، يشدُّ بعضه بعضاً ، وهم لبعضهم بعضاً ، نصحةٌ متوادُّون ، ولو ابتعدت منازلهم ، بينما المنافقون بعضهم لبعض ، غششةٌ متحاسدون ولو اقتربت منازلهم .
لذلك .. يجب ألا نعجب إذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم حب المؤمنين علامة كافية على صحة الإيمان ، وصدقه ، بل جعل محبة المؤمنين شرطاً وحيداً لوجود الإيمان في الرجل فقال :((والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا)) .[أخرجه مسلم في صحيحه رقم 93 ، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة ]
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس ، اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم ، وقربهم من الله ، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى الني صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ناسٌ من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم ، وقربهم من الله انعتهم لنا ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي فقال : هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابُّوا في الله وتصافوا يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، فيجعل وجوههم نوراً ، وثيابهم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة وهم لا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) .
وفي الحديث القدسي : ((وجبت محبتي للمتحابين فيَّ وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ)) .أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير
وأي فضل هذا الذي يحرزه المؤمن إذا أحب أخاه ؟ . وجوب محبة الله له ! ما أعظم الثمن , وما أحسن العمل وما أسهله .
وفي حديث آخر :
((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)) .
[أخرجه الترمذي في كتاب الزهد 2390 ، وقال حسن صحيح]
وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وفي رواية : ((وحتى يكره له ما يكره لنفسه)) ، فالمراد بأحدكم في الحديث : كل المسلمين في كل العصور ، وكل الأمصار ، لرواية أخرى تقول : ((لا يؤمن أحدٌ أو عبدٌ )) ، وإن كان بهذه الصيغة خاصًا بالمشافهين ، الذين عاصروا النبي ، والمراد بالأخ في الحديث من له أخوة الإسلام مطلقًا .. كما ورد في بعض الروايات : ((لأخيه المسلم)) ، فالمسلمون على اختلاف شعوبهم ، وقبائلهم، وديارهم ، وألسنتهم ، وألوانهم هم أسرة واحدة ، قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات10.
ويستفاد من كلمة إخوة التي تعني أخوة النسب أن أخوة الإيمان أعلى درجات الأخوة، ويستفاد من كلمة إنما : أن الأخوة الحقة قاصرة على المؤمنين ، وكل علاقة أخرى لا تقوم على الإيمان ، علاقة أساسها المنافع تدوم بدوامها ، وتزول بزوالها ، وفي رواية للنسائي: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، من الخير)) ، وهذه الكلمة : ((من الخير)) قيد لا بد منه ، لأن من كان يحب لنفسه شيئاً من المشتهيات المحرمة ، ليس من الإيمان أن يحب لأخيه مثلها ، فالمراد ((بالخير)) في الحديث ما هو خير شرعاً ، والخير الشرعي يتناول الحظوظ الأخروية كلها ، كالعلم النافع ، والعمل الصالح ، والعبادة الخالصة ، والعاقبة الحُسنى .. ولا يتناول من حظوظ الدنيا إلا ما كان مباحاً غير مذموم ، كسعة الرزق من الحلال ، ونجابة الأولاد ، وطول العمر ، والسلامة من المكاره.
والذي رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل فسلم عليه ، ثم جلس فقال له ابن عباس : يا فلان ، أراك مكتئبا حزيناً؟ قال : نعم ، يا ابن عم رسول الله ؛ لفلان عليَّ حق ولاءٍ ، وحرمةِ صاحب هذا القبر ما أقدر عليه .. قال ابن عباس : ألا أكلمه فيك ؟ قال : إن أحببت ، قال : فانتعل ابن عباس ، ثم خرج من المسجد ، فقال له رجل : أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر ، والعهد به قريب ، فدمعت عيناه ، وهو يقول : ((من مشى في حاجة أخيه ، وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق ، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)) .
[ورد في كنز العمال 24019 ،ورواه الخطيب وقال غريب ورواه الطبراني في الكبير ورواه الحاكم]
وفي الحديث : ((لأن أمشي مع أخٍ لي في حاجة ، خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا)) .
[أورده السيوطي في الجامع الصغير ]
ومن ثمار المحبة بين المؤمنين إذًا، التراحم ، والتعاون ، والتضامن ، والتكافل ، والمؤاثرة ، فقد أمر الله المؤمنين بالتعاون فيما بينهم ، إلا أنه قيد التعاون بأن يكون تعاوناً على البر والتقوى ، لا تعاوناً على الإثم والعدوان .. قال تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة
قال علماء التفسير : التعاون على البر هو التعاون على صلاح الدنيا ، والتعاون على التقوى هو التعاون على صلاح الآخرة ، وفي الدعاء النبوي الشريف : ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)). أخرجه مسلم
فمن التعاون : التناجي بين المؤمنين في صلاح دنياهم وآخرتهم ، والمشاركة في إبداء الآراء ، وتوضيح الحقائق ، وتشخيص المشكلات ، والبحث عن الحلول ، وتذليل العقبات ، فليس من سمات المؤمن الصادق الفردية والانعزالية والسلبية ، والهروب من حلِّ المشكلات ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المجادلة9 .
لذلك تُعدُّ الشورى من مظاهر التعاون الفكري ، أمر بها رسوله فقال : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) آل عمران159 .
ووصف بها المؤمنين فقال : ( وأمرهم شورى بينهم ) . الشورى 38 .
ومن التعاون بين المؤمنين تنفيس الكروب وتيسير الخطوب وستر العيوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة برواية مسلم :((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .
فتنفيس الكروب هو تفريجها وإزالتها ، والكروب جمع كربة ، وهي الحزن والغم ، الذي يأخذ بالنفس فيضغط عليها ضغطاً مؤلماً ، وهنا يأتي دور المؤمن في مساعدة أخيه في تنفيس كربة ، فإذا كانت كربة أخيه من جهة فقره ، وحاجته ساعده حتى يسدَّ حاجته ، ويرفع عنه ضرورته ، سواء أكان ذلك في ماله ، أم في سعيه الحسن ، وإن كانت كربة أخيه بسبب حاجته إلى قرض حسن ليدفع ضرورة مُلحَّة أقرضه ، وإن كانت كربة أخيه بسبب مصيبة حلَّت به واساه ، وساعده حتى تنفرج عنه الكربة ، وإن كانت بسبب حاجته إلى شفاعة حسنة شفع له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى زواج سعى بتزويجه ، وإن كانت بسبب حاجته إلى عمل ، سعى في تهيئة العمل الملائم له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى تداوٍ من علة جسمية أو نفسية ، سعى له في العلاج المناسب حتى يُنفِّس عنه كربته .. وقل مثل ذلك في التيسير والستر والمعونة .
محبة الله أصل ، ومن فروعها :
3 - أن تنصف الناس جميعًا على اختلاف مللهم ونحلهم ، وأن ترحمهم ، وتُعينهم في أمر دينهم ودنياهم ، لأن الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي عن الرجل انتماءه للإسلام إذا غش كائناً من كان فقال : ((ليس منا من غش)) .
[رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة ]
محبة الله أصل ، ومن فروعها
4 - أن ترفق بالمخلوقات جميعًا ، وأن ترحمهم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله من مثَّل بالحيوان)) .
[رواه البخاري ومسلم ]
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب صبرًا ، ونهى عن التحريش بين البهائم ، وأن يتخذ شيء من الروح غرضًا ، أي هدفًا في الرمي ، روى الإمام البخاري أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) .
وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((غُفر لامرأة مرَّت بكلب على رأس بئر يلهث يكاد يقتله العطش فنزعت خُفَّها ، فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك)) .
§ كيف تكون المحبة والألفة ؟ وما شروطها وموجباتها ؟ وما ثمارها ونتائجها ؟
يقول الله تبارك وتعالى : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }الأنفال63
يتضح ذلك كله من قصة عمير بن وهب الجمحي الذي نجا من الموت في معركة بدر ، وخلَّف ابنه وهباً أسيراً في أيدي المسلمين .. جلس ذات يوم في فناء الكعبة ، مع صفوان بن أمية ، سيد قريش وزعيم الشرك ، يتذاكران بدراً ، فقال عمير لصفوان : ورب الكعبة ، لولا ديون عليَّ ليس عندي ما أقضيها ، وعيال أخشى عليهم الضياع من بعدي لمضيت إلى محمد، وقتلته ، وحسمتُ أمره ، وأرحتكم منه ، فقال صفوان : يا عمير ، اجعل دينك كله علي ، فأنا أقضيه عنك مهما بلغ ، وأما عيالك فسأضمهم إلى عيالي ما امتدت بي وبهم الحياة ، وإن في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً ، ويكفل لهم العيش الرغيد ، فامض لما أردت ، عندها أمر عمير بسيفه فشُحِذ ، وسُقيَ سماً ، ودعا براحلته فأعدّت ، وقُدِّمت له ، ويمم وجهه شطر المدينة ، وملء برديه الضغينة والشر ، ولما بلغها مضى نحو المسجد ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمحه سيدنا عمر رضي الله عنه ، وهو على باب المسجد ، فأقبل عليه ، وأخذ بتلابيبه ، وطوَّق عنقه بحمالة سيفه ، ومضى به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب جاء يريد شرًا .. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال قال لعمر : أطلقه ، فأطلقه ، ثم قال له : استأخر عنه ، فتأخر عنه، ثم توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير ، وقال له : ادن مني يا عمير ، فدنا فقال له : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت أرجو فكاك هذا الأسير ، الذي في أيديكم فقال له: فما بال هذا السيف الذي في عنقك ؟ قال : قبَّحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تقل لصفوان في فناء الكعبة عند الحجر : لولا دين عليَّ ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً ، فتحمَّل لك صفوان بن أمية دينك وعيالك على أن تقتلني ، والله حائلٌ بينك وبين ذلك ، فذهل عمير .. وقال : أشهد أنك لرسول الله ، لأن خبري مع صفوان لم يعلم به أحد إلا أنا وهو ، ووالله لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، ليهديني إلى الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم : ((فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا أسيره .. ففعلوا)) .
[كنز العمال 13/37455]
وموطن الشاهد في هذه القصة ، أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال بعد أن آمن عمير بن وهب بالله ورسوله ، واصطلح مع الله ورسوله : دخل عمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والخنزير أحبُّ إلي منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إلي من بعض أبنائي ، ولنذكر قوله تعالى :( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) . [سورة آل عمران]
حينما نؤمن بالحقيقة نفسها ، ونسعى لهدف واحد ، ونسلك سبيلاً واحداً ، وحينما نتمثل القيم الإنسانية الرفيعة ، ونتخلق بالأخلاق الأصيلة التي تسمو عن الزمان والمكان يكون اللقاء حتمياً ، والحب صادقاً والتعاون مثمراً ، وتحقق خلافة الإنسان في الأرض وتصبح البشرية في أرقى أطوارها .
وهكذا ترى أن حب العبد لربه ومولاه وما بتبعه من حب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحب المؤمنين , وحب الخير لهم ولكل المسلمين , بل لكل الناس , والشفقة بالحيوان – ترى أنه أمر تصلح به الدنيا , وتسعد به الحياة , أفرادًا ومجتمعات, ومن فقد هذا الشعور وخلا قلبه منه وأد حياته أو أخذ بها جانبًا بعيدًا عن السعداء
وخاض في واد التيه مع الأشقياء .
ونحتم قولنا بالدعاء :
لندع الله مخلصين كما أمرنا ، فالله جل في علاه لا يحب العمل المشترك , ولا القلب المشترك . فالعمل المشترك لا يقبله الله ، " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك "، والقلب المشترك لا يقبل عليه أصلا .
اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، وحب كل عمل صالح يبلغنا حبك .
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله قوةً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأموالنا والناس أجمعين .
اللهم ارزقنا حب الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين .وانصر ألإسلام والمسلمين في كل مكان . آمين .
هناك تعليق واحد:
وجبت محبتي للمتحابين فيَّ وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ)) .أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني
اخى واله انى احبك فى الله
إرسال تعليق