ومما ورد في حب الله

ومما ورد في حب الله تعالى :

قال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.

وفي بعض الكتب: عبدي أنا -وحقك - لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.

وقال يحيى بن معاذ:

إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتَهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك وأنا صغير، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.

وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به.


أحب الأعمال إلى الله

( أحب الأعمال إلى الله }
1 - أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
2- أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله .
3 - أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله .
4 - أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم .
5- أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور ٌ تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهرًا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضيً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزول الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
6- يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل .
{ هذه الأحاديث من تخريج السيوطي وتحقيق الألباني }

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

روح الجماعة



إن تاريخَ أيّة أمة يرتبطُ بقدرِ ما أنجبت من رجالٍ أصلحوا الفاسدَ، وأقاموا المعوجَ، وسددوا المنحرفَ، وخلفت لمن بعدها تراثًا تنعمُ به وتفخرُ، وللأجيال المتعاقبةِ نورًا يستضاءُ به، ودواءً يستطابُ به، وهل تاريخُنا كأمةٍ إسلاميةٍ إلا تاريخُ الجيلِ القرآني الفريدِ الأولِ، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا..؟

وجماعة (الإخوان المسلمين) امتداد لهذا التاريخ المجيد، قامت لتبعث الحياة في الأمة من جديد، كما قال الإمام البنا مخاطبًا لهم: ".. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة، فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق، فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم-.. ومن الحق الذي لا غلو فيه، أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس".

أخي في الله..

هذه كلمات حية بعد وفاة كاتبها رحمه الله الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد- عميد طلاب الإخوان المسلمين، أو كما قال آخرون: "أبو الطلاب الإخوان" يقول رحمه الله تحت عنوان: روح الجماعة:

ما الجماعة التي نريد؟

هل نعني بالجماعة مطلق الأعداد؟ أو نقصد بها كثرة الأفراد؟ أو هي صورة الجماعة، وهيكل البناء؟

هذه معانٍ واحتمالات يسبق الفهم إليها، وتصلح للتأويل والتصوير.. فهل إلى شيء منها نقصد؟

لا نعني بالجماعة مطلق الأعداد، ولكن معنى الأعداد.. ولا نقصد كثرة الأفراد، ولكن "روح" الجماعة وحقيقة البناء!.

وإذا كانت الجماعة فيما نقصد: وحدة، ومعنى، وروحًا، لا كثرة وصورة ولفظًا.. فما نعني بالوحدة، والمعنى، والروح إذن؟

نعني بالوحدة: قوة المزج.. ونقصد بالمعنى حقيقة المزج.. ونريد بالروح عمل المزج.. إن الجماعة "وحدة" فهي كثرة "كيف".. وإنها "معنى" فهي قوة فعل.. وإنها روح فهي "حياة" تمشي على الأرض!.

روحُ الجماعة لا يسري في الآدميين فحسب، بل العجماوات! كذلك، وعِرْقُ الجماعة لا ينبض في الأناسي فقط، بل في الماء والشجر، ونَفَسُ الجماعة لا يتردد في البشر وحدهم، بل في الجماد والحجر!.

إن الأغنام أضعف العجماوات في قوة معنى الجماعات، حتى إن الجزار لا يهوله كثرتها! ولكن الذئب يهابها "مجتمعة" ويطمع فيها "منفردة" ولا يأكل منها إلا الشاة القاصية!.. والنحل في الجو "أشتات" وعصائب متفرقة، ولكنه في الخلية "ملكة" ودولة.. وإن الماء لا يكون ماءً بعناصره، بل بامتزاج عناصره.. والبحر ليس بقطراته، وإنما هو باجتماع قطراته! وليست الحديقة الجميلة أرقامًا من شجر، وإنما هي "نسق" من شجر "وطاقة" من زهر وثمر! وما كانت الصخور والأحجار في طباق الأرض إلا إلفًا من ذرات، ونظام من عناصر!

وإن للجماعات لإكسيرًا خفيًّا، هو روح نظامها، ذلك هو الحب، روح وحدتها في وحدة روحها!".

ومن كلماته في أول مؤتمر لطلبة الإخوان المسلمين عُقد في 19 من ذي الحجة 1356هـ، الموافق 20 من فبراير 1938م: "أيها الإخوان: هذه دعوتنا، بل دعوة الله أعلنها عليكم واضحةً صريحةً، وهذه قافلة الله تسير إلى الله بنور الله، وهي لن تضرها القلة؛ والله يقول: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: من الآية 249)، ولن تزعزعها الدنيا الباطلة؛ لأنها تُدافع بقوةِ الله قبل قوتها، وإنَّ الله ليسخر الدنيا ويخضع الطبيعة للإيمان، فلا يملك الباطل أمام الحق إلا الهزيمة.

فإن كنت مؤمنًا به فابذل نفسك له، وإن كنت مسلمًا تعني ما في الإسلام من معانٍ ومهام، فاستمسك بهذا اللواء الذي عقده الله لنبيه، وما أنت إلا رسول الله لتبلغَ رسالتَه، وتنشرَ دينَه في الآفاق، وافنَ في هذه العقيدة فناءً، ولتكن صلاتك ونسكك ومحياك ومماتك لله رب العالمين لا شريك له، فإن كنتم مؤمنين بهذه الدعوة كلها لا نصفها ولا ثلثها، فابذلوا أنفسكم لها، وبيعوه إياها ظافرين غانمين".

ومن وصفه للإمام البنا: "رجل كأنما أفلت من الرعيل المحمدي الأول، جيل الوحي والمعجزات، جيل البطولة والأبطال ليعيش في جيلنا الحاضر، جيل الظلم والظلمات، جيل الرجال وأشباه الرجال، جيل الغاب المتحضر، والمخالب المكسوة بالقطيفة المخضبة بالدم الأحمر.

كان "شحنة إلهية" فذة سرت في أعصابها أقباس النبوة، وأنوار الدعوة، وروح محمد- صلى الله عليه وسلم- كان "شعلة حياة" عالية الجذوة تتوهج في ظلمات الناس فتفيض عليهم بأمواج النور والحرارة والسناء كان "عنصرًا" أصيلاً من عناصر الطبيعة يعمل للإصلاح بفطرته".

لقد كان أبو الطلاب بحق مثالاً للفناء في الدعوة فهمًا وعلمًا وإخلاصًا وعملاً وتضحيةً وطاعةً وتجردًا وصبرًا ومجالدةً وظل على الحق ثابتًَا حتى تُوفي في 4/5/1992م، وصُليَ عليه بالحرم المكي ودُفِنَ بمكةَ المكرمة.

وقفة مع مكنون هذا الكنز

الجماعة كائن حي

أخي في الله: إن الجماعةَ كائنُ حيٌّ، ذو رأس وجسد وأعضاء وجوارح، وأجهزة عصبية، وإن أعضاءها متصلة متلاصقة، ورأسها يصدر رسائله وأوامره عبر جهازه العصبي المتواصل مع كل الأعضاء، بمعنى أن أفرادَ الجماعةِ استحالت جسدًا واحدًا، امتزجت رؤوس أفرادها، فصارت رأسًا واحدًا، والقلوب تعارفت وتلاصقت، والأيدي اتحدت فصارت واحدة، وكذا الأرجل وسائر الجوارح، ذاب الأفراد وتلاشت "الأنا" و"الأنانية" وعظمت الجماعة، وسرى بينها إكسير الحياة "الحب" و"الإيثار" ميراثنا من الأنصار: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)﴾ (الحشر).

إن هذا الفهم يوحّد الفكرة والكلمة والحركة بين أفراد الجماعة، حيث ترى الأخ في الشمال يتحدث كما الأخ في الجنوب، وما التقت أجسامهم، ولكن تلاقت أرواحهم، فنطق كل منهم بالصحيح من الفهم.. وترى الأخ في نصف الكرة الأرضية، يتحرك نفس حركة الأخ في النصف الآخر، وما جمعهم مكان.. ولكن دبت في أجسامهم روح الإسلام، فوحدت منهم الوجهة والحركة.

وما أقرب الشبه بين حركة الفرد مع الجماعة، بحركة المسلم في صلاة الجماعة، وحدة القيادة متمثلة في الإمام، ووحدة الحركة متمثلة في حركة الأفراد التابعة لحركة الإمام، فإذا ركع ركعوا وإذا سجد سجدوا، والبركة في صلاة الجماعة مضاعفة، وثمرة الحركة في الجماعة مضاعفة.

وإن هذا ليعطي الجماعة قوةً لا تقهر، إن تكلمت فصوت مدوٍ مجلجل، وإن تحركت فصف مرصوص لا ينفذ منه أحد، ولا يوقفه شيء.. ويصف الإمام البنا- رحمه الله- دعوة (الإخوان المسلمون) فيقول:

"هادئة.. لكنها أقوى من الزوابع العاصفة.. متواضعة.. لكنها أعز من الشم الرواسي.. محدودة.. لكنها أوسع من حدود هذه الأقطار الأرضية جميعًا.. خالية من المظاهر والبهرج الكاذب.. ولكنها محفوفة بجلال الحق، وروعة الوحي، ورعاية الله.. مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية، ولكنها تورث المؤمنين بها والصادقين في العمل لها السيادة في الدنيا والجنة في الآخرة".

المزج بين أفراد الجماعة

سر قوة الجماعة تتحقق بقوة المزج بين أفرادها، كالمزج بين جزيئات الهواء فيتكون الماء، فيتحقق الانتفاع به ولو بقي الأكسجين والهيدروجين منفصلين لما تحققت بهما الحياة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: من الآية 30).

وهكذا مهما كان صلاح الأخ وتقواه يبقى أثره محدودًا، ونطاقه ضيقًا، ما بقي محصورًا في الـ"أنا" ولا يتحقق به نصرة الإسلام وإعزاز أهله، ألا ترى أن ما يموت بالجسم من خلايا يتجدد بأخرى تحل محلها، وأن ما يموت من كرات بالدم يتولد غيرها، وأن الله زود كل جسم بما يحفظ عليه حياته، وهكذا الجماعة الموصولة بالله، المخلصة في حمل راية الإسلام، الله يصطفي لها من الناس من يسد فراغ من أتعبه الطريق، أو أقعدته المشقات، أو صرفته الأهواء، أو غلبته نفسه.. أو خدعه زخرف القول، أو أسال لعابه الوعد أو أرهبه الوعيد .

ومع كل الآلام والألم الذي ينزل بالجماعة من العدو والصديق، ومع الحرب الشعواء التي جندت لها كل القوى العالمية وسخرت لها كل وسائل أعلامها، وقوات أمنها.

مع كل ذلك فإن الجماعة المسلمة ولود ودود، والدماء في شرايينها تتجدد، والأصفياء من أبنائها: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: من الآية 23).

ومع كل ذلك فإن الناس من حولهم يرون فيهم الأمل المرتقب، ومنهم من يلحق بركبهم على الرغم مما يراه من الاضطهاد والسجن والتعذيب والحرمان، والعناء الذي ينتظرهم بالسير في هذا الطريق، ومنهم من يؤيد ويحب ويؤازر.

والجماعة تشفق على أبنائها وترأف بهم، وتحرص على التراب الذي يمشي عليه أعضاؤها، وتأبى أن تفرط فيمن عرفتهم، وحبالها دائمًا إليهم موصولة، ولو تنكروا لها، وأيديهم إليهم ممتدة، ولو آذوها، وبابها مفتوح على مصراعيه لمن يؤوب مهما كان منه.. كل ذلك في غير مِنَّةٍ ولا أذى.. وغايتهم من ذلك أن يصفح الله عنهم ويغفر لهم: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور: من الآية22).

العضو المنفصم يموت

وليعلم كل مسلم أن الأعضاء القوية، والسواعد الفتية، إن بترت وانفصمت عن جسمها، فإن وظيفتها تتعطل، وأن تلك الأعضاء حين يعتريها الشلل، تصبح عبئًا على الجسم، وقد تبذل المحاولات لإعادة الحركة إليها، ونفخ الحياة فيها، حتى إذا استيأس الأطباء، وأعيتهم الحيل، ولم يعد في جعبتهم دواء، وسرى لديهم خوف ووجل أن يتسرب الشلل إلى ما يجاوره، تراهم في لحظة يقررون أن البتر ضرورة للمحافظة على كيان الجسم.. هذا قد يكون مع الجماعة ككائن حي مع فارق جوهري يتجلى في أن الجماعة لا تقوم بالبتر؛ ولكنها تترك ذلك لحركة الفرد؛ لأنها لا تفقد الأمل فيه، وتتمنى منه العود.. والعود أحمد..

الغصن حياته مرهونة باتصاله بالشجرة

إن الجماعة شجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء، أغصانها مورقة مزهرة مثمرة، وعطاؤها متجدد، وثمارها طيبة موصولة لا تنقطع صيفًا ولا شتاءً.. وإذا انفصم عنها غصن، ذبلت أوراقه، وماتت ثماره، وجفت عروقه، وصار حطبة تشتعل فيها النيران.. وهذا شأن الفرد في الجماعة موصول بالأصل، فحياته باقية حتى بعد موته، وثماره وفيرة وهو في قبره، وله لسان صدق في الآخرين، وما انفصم أحد عن الجماعة إلا صار كالغصن المنقطع عن أصله.

قانون الاستبدال

وليوقن كل مؤمن أن ذلك لا يؤثر على قوة الجماعة أو حركتها، لأن الله هو الذي يختار لدينه ودعوته من يحملها، ومن ثَمَّ فإن الله يستبدل به غيره، يكثر خيره وينتشر فضله ويعم نفعه.. وما ذلك على الله بعزيز..

أخي في الله: وبعبارة أخرى ألا ترى اللبنات القوية المتينة لا قيمة لها ولا أثر، إلا إذا صارت بنيانًا مرصوصًا يشد بعضها بعضًا، ويدفع بعضها عن بعض، وبها يحتمي الإنسان من الحَرِّ والقَرِّ، وفيه تصان النفس والمال والعرض.. عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ"( ). وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"( ).

العمل الفردي خروج على الفطرة

العمل الجماعي والانطواء في جماعة فريضة شرعية تحدث عنها العلماء والفقهاء، وضرورة بشرية تحدث عنها علماء الاجتماع، لكنه مع ذلك من النواميس الكونية التي ما انفك عنها شيء كما يقول شيخ الطلاب: "إن روحَ الجماعة لا يسري في الآدميين فحسب، بل العجماوات! كذلك، وعِرْقُ الجماعة لا ينبض في الأناسي فقط، بل في الماء والشجر، ونَفَسُ الجماعة لا يتردد في البشر وحدهم، بل في الجماد والحجر!".

نعم إن الحركة في جماعة، من نواميس الكون، ولا يشذ عنها من أجناس الكون جنس، ومن شذ عنها هلك، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ( ): عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ، لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ، إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ"( ).

المحافظة على النظام من أسرار النجاح

كل شيء في الكون من حولك يوحي بالنظام والنسق الجميل، والحركة الهادفة المنتظمة، ولكل جماعة نسقها ونظامها، من انطوى في فلكها يجب ألا يشذ بحركته عن المجموع، وإلا كان نشازًا، واصطدم بالنواميس الغلابة، والتي لا تحابي ولا تجامل.

ولكل فرد في الجماعة فلكه الذي يسبح فيه توظف فيه قدراته، وتراعى فيه إمكاناته وقدراته، دون تصادم، أو تعطيل، وكل ميسر لما خلق له، ولكل مكانه الذي يتحقق فيه عطاؤه، ويكثر فيه بره وخيره، فليلزم كل منا ثغره، ولا يستشرفنَّ أحد إلى ثغر غيره، لأن ذلك منزلق خطير هلك فيه خلق كثير.. وطوبى لمن يؤدي ما يناط به، إن كان في الساقة فهو في الساقة، وإن كان في الحراسة فهو في الحراسة، وهذا منهج النبوة، وليس بدعًا من الجماعة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ"( ).

الجماعة والفرد جنة وشجرة طيبة.. ما أجمل هذه العبارة!

"وليست الحديقة الجميلة أرقامًا من شجر، وإنما هي "نسق" من شجر "وطاقة" من زهر وثمر!".

هكذا يجب أن نكون نسقًا متسقًا من نخيل وأعناب وزروع وثمار تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وبجوار النخيل تتولد الفسائل وتنمو، وحتى تستقل بذاتها تنزع من أمها وتغرس شجرة مستقلة، وكذلك الأعناب تؤخذ منه العُقل وتغرس بعد حضانة في مشتل والجميع يتحول إلى شجر مبارك طيب..

أيها الأخ الحبيب: كن أنت النخلة الطيبة، ولتنم في أحضانك الفسائل المباركة من أبنائك أو أبناء إخوانك أو جيرانك أو أبناء جيرانك على أن تستقل بذاتها بعد حين من الزمن، ليتولد منها ومنك فسائل أخرى مباركة تشد من أزرها وتزيد من خيرها حتى ينعم جميع أبناء المجتمع بثمرها الطيب المبارك.. وما أجمل مثل أمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في سورة محمد: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (محمد: 29).

الفرد في الجماعة ذوبان وتعظيم

الفردية في الجماعة تذوب وتنمحي، والجماعة تعلي من شأن الفرد وتمنحه من قوتها وقدراتها ما يجعله خلقًا آخر، حيث يتحرك بقوة المجموع، وينطق بصوت المجموع، ويواجه الدنيا وعمقه وقوته وقدرته مستمدة من المجموع، ومن ثم يمضي غير هياب ولا وجل، فمن حوله يؤازره، ومن بجانبه يسانده ويدعمه، وهو محاط بسياج من إخوانه عنه يدفعون، ويحفظونه من أحابيل نفسه وتزيين هواه، ويجيرونه من همزات الشياطين، وزخرف قول الإنس والجن: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾ (الأنعام).

كما أن إخوانه في أهله يخلفون، ومن أجله يقدمون ويضحون.. وبدوره في الجماعة يقومون..

واحذر أخي في الله من تضخم الذات واستعلائها، حتى إنها لتحسب نفسها الجماعة، وبدلاً أن تكون فردًا في جماعة فإذا به يريد للجماعة أن تنحسر لتصير جماعة في فرد.

إن الفرد في الجماعة فرد ذو همة يحيي الله به الأمة، والجماعة من خلف الفرد، هي الأمة التي تمنحه كل وسائل النجاح والتقدم، وتدعمه بكل ما يحقق غايتها والتي هي غايته.

حكم من رحم السجن

وما أروع الحكمة الناتجة من آتون التجربة والمولودة من رحم السجن والمعاناة والتي يقدمها قريب عهد بالسجن ألا وهو الدكتور محمود أبو زيد أستاذ جراحة الأوعية الدموية بكلية الطب بقصر العيني، وعضو مكتب الإرشاد، المفرج عنه مؤخرًا بعد قضائه ثلاث سنوات خلف قضبان الظلم في المحكمة العسكرية الأخيرة للإخوان، حيث يحدثنا عن القيم التي مَنَّ الله في منحة الاجتباء والاصطفاء فيقول: "التوكل على الله سبحانه وتعالى هو حسبنا، ومعية الله لعباده، والاقتناع بالمبادئ والالتزام بها وبرسالة الإنسان، التي لا يثني الإنسان عنها حبس أو سجن أو اعتقال، وأن الزوجة والأولاد وذوي القربى الصالحين هم كنز ليس له مثيل، فهناك فرق ضخم بين فرد محبوس يستشعر أن معاناة أهله خارج المعتقل عبء عليه، وبين آخر يشعر أن أهله دائمًا ما يحملون عنه همَّه.

وقيمة أخرى استشعرتها هي، انتماء الإنسان إلى جماعة، وأنه جزء من كلٍّ.. هذا الشعور يمحو عن الإنسان شعوره بالحبس؛ لأن باقي الجماعة خارج الأسوار، تكمل المهمة، والدعوة سائرة، والعمل قائم، والجماعة تُشعرنا أيضًا أننا جسد واحد، وبنيان مرصوص.

ومعنى آخر أو قيمة أخرى استشعرتها هي: أن المجتمع المصري في النهاية هو مجتمع محب لدينه، ولمست هذا في احتفاء الناس بنا لحظة الإفراج، والمثير للدهشة أن جيراني المسيحيين كانوا أكثر الجيران سؤالاً عني لما يربطنا من حسن جوار علمنا إياه الرسول الكريم.

وحكمة أخرى في نفس السياق من رحم السجن يهديها لنا الدكتور محمد علي بليغ، حاصل على "دكتوراه في أمراض العيون" وأستاذ الرمد في معهد بحوث أمراض العيون في الجيزة، ومستشفى رمد الأزهر، وأحد الأربعين المحالين للقضاء العسكري بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان، يصف حاله وحال إخوانه الذين حصلوا على أحكام البراءة في لحظات تنفيذ الأحكام، فيقول: "خرجنا من باب الزنزانة تسبقنا دموعنا وذكريات عام ونصف العام نراها بين أعيننا، تارةً نتقدم خطوةً ونتراجع أخرى، ناظرين خلفنا لعلنا نستطيع أن نصطحب إخواننا في أيدينا، وتارةً نمشي سريعًا حتى ينقضي هذا المشهد الحزين، أو لعل الزمان يعود بنا يومين إلى الوراء لينطلق حكم البراءة عاليًا يدوي بين جدران المحكمة فتصرخ الجدران بالتكبير فرحةً متهللةً بالعدل الذي عم أرجاءها، ونهوي على الأرض سجدًا نحمد المولى القدير الذي جعل لنا مخرجًا، لكن هذا لم يحدث، فقد خرج كل منا تاركًا خلفه جزءًا من نفسه، وبحثتُ في نفسي، وبحث كل منا في الجزء الباقي من نفسه، فلم يجد به مكانًا لفرحة الخروج، فبعد أن ودعنا إخواننا بنشيد الله غايتنا، رحلنا وكأننا ننسلخ من جلودنا، أو نقتلع من جذورنا، وكم كنت أتمنى أن أنتظر معهم لبضعة أيام أخرى حتى تهدأ الأنفس وتستقر الأمور".

أخي في الله..

أناشدك الله أن تبقي على حياتك، وأن تلزم غرزك، وإياك والهوى، والاغترار بالحياة الدنيا، واحذر الوقوع في أحابيل الشيطان، بما يلبسه علينا من غايات، ظاهرها السمو والحرص على الجماعة، ومن ورائها انحدار من حيث لا نعلم ولا نشعر.. ولا يظنن ظانٌ أن مشقات الطريق من أخطاء العاملين، وأن المهادنة تنجينا من قسوة الظالمين، بل يجب أن نكون على يقين من أن الله وحده هو الذي ينجينا ويأخذ بأيدينا، وليس على المسلم إلا أن يواصل العمل، ويسأل الله الثبات على الحق، والتوفيق للخير، والسداد في القول والعمل، فهو وحده ولي ذلك ومولاه والقادر عليه، وهو نعم المولى ونعم النصير.

الهوامش:

(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: باب تَشْبِيكِ الأَصَابِعِ فِى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ 2/143(481)، ومسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2585/65).

(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2586/66).

(3) القاصية: المنفردة عن القطيع البعيدة عنه (النهاية 4/75).

(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: فِي التَّشْدِيدِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 1/129، والنسائي في كتاب الإمامة، باب: التَّشْدِيدِ فِى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 2/106 (847).

(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ 6/175 (2887).

بقلم: الشيخ/ حجازي إبراهيم ثريا

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

هناك تعليق واحد: