ومما ورد في حب الله

ومما ورد في حب الله تعالى :

قال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.

وفي بعض الكتب: عبدي أنا -وحقك - لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.

وقال يحيى بن معاذ:

إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتَهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك وأنا صغير، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.

وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به.


أحب الأعمال إلى الله

( أحب الأعمال إلى الله }
1 - أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
2- أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله .
3 - أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله .
4 - أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم .
5- أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور ٌ تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهرًا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضيً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزول الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
6- يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل .
{ هذه الأحاديث من تخريج السيوطي وتحقيق الألباني }

الأربعاء، 7 أكتوبر 2009

مدرسة الحج التربوية


بقلم: إسماعيل حامد
تتمثَّل عظمة الإسلام في أنه دين عملي وواقعي وحركي؛ ينطلق بالمسلم من حيث هو، يأخذ بيده ويرتقي به، ويُهذِّب من سلوكه ويُغيِّر من عاداته، وفق ما يلقاه المسلم في يومه من مواقف دينية أو دنيوية، وأنه دين لا يغفل أي موقف يحياه المسلم إلا ويجعله منطلقًا للارتقاء به، وأنه دين يجعل من عباداته رافدًا أساسيًّا في تربية النفس وتزكيتها وتهذيبها وإصلاحها، وأنه دينٌ يجعل الأخلاق مقترنةً بالعبادات في تلازم وتجانس بديع لتكون أثرًا من آثار العبادة المقبولة؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعوِّد على الانضباط والإتقان، والزكاة مدرسة للبذل والعطاء وطهرة للنفوس وتكافل اجتماعي بنَّاء، والصيام ينمِّي الصبر بأنواعه ويوحِّد مشاعر المجتمع في حالة يعز نظيرها.

أما عبادة الحج فتتجسَّد فيها قمة العمل التربوي؛ لتصبح ميدان تربية متكاملة، وتهذيبًا قويمًا للنفس، وإصلاحًا وتغييرًا للسلوك، بصورة أكبر مما هي عليه في العبادات الأخرى؛ وذلك لما للحج من مكانةٍ في النفوس وشوقٍ في القلوب، ولهفةٍ وولعٍ يعتصر أفئدة المؤمنين، وإن من روعة هذا الدين أنه جعل من فريضة الحج مدرسة تربوية متكاملة؛ اجتمعت فيها غالبية العناصر التربوية المطلوبة في العمل التربوي الفعال، فنجد في الحج تلك العناصر:
* استعداد المُربَّى: ففي رحلة الحج تتحقق الرغبة واللهفة في نفس المسلم؛ حيث يحمله الشوق واللهفة إلى القيام برحلة الحج؛ شوقٌ إلى لقاء الله ورؤية بيته الحرام، وشوقٌ إلى السلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم، وشوقٌ إلى تجديد العهد والبيعة مع الله، وهي مظاهر تدل على مدى حرص المسلم وإقباله طواعيةً على هذه العبادة؛ مما ييسِّر تحقُّق أهدافها التربوية في النفس.

* بيئة صالحة للتربية: فلا أروعَ من بيئةٍ تضمُّ بيت الله الحرام ومسجد الحبيب المصطفى والبقاع الطاهرة التي وقف عليها رسول الله، وموضع آثار أقدام الشهداء والمجاهدين من الصحابة الكرام، فتجتمع بذلك أطهر بيئة صالحة للتربية والتأثير والتغيير في نفس المسلم.

* صحبة صالحة مُعِينة: فإن المسلمَ يكون وسط جموع صالحة جاءت تُلبي نداءَ الرحمن؛ كل هدفها السعي إلى مرضاة الله، والفوز برضاه، تقدم العمل تلو العمل، لا تملك إلا أن تكون في معية الله وفي رحابه، فتكون تلك الصحبة خير معين على تزكيةِ النفس وتربيتها التربية الإيمانية.

* منهج تربوي متكامل: من خلال مناسك تتدرج بالمسلم خطوةً خطوة، وتسمو بنفسه، وتُعلي من إيمانياته، تأخذ بيده إلى الله، فنجد المسلم الحاج يقرأ فقه الحج والعمرة كاملاً بكل أحكامه، ويقرأ في الجوانب الروحية المنبثقة من الحج، وينظر في محظورات الإحرام لتجنبها، وأحكام الفدية والهدي وغير ذلك من قراءات تتعلق بالحج، ويظهر الأثر الحقيقي للمنهج هنا في حرص المسلم على الإلمام به كله إلمامًا تامًّا، متمثلاً جوانب المنهج الثلاثة (المعرفية والوجدانية والسلوكية).

* وسائل تربوية متعددة: تشمل الرحلة الطويلة والقصيرة الداخلية والخارجية، المبيتات الروحية والمعسكرات والمخيمات والندوات التي تقام طوال الرحلة، ووسائل تزكية النفس المتعددة من خلال الصلوات في الحرم، والاعتكاف فيه، والطواف والسعي؛ فنرى في الإحرام تربيةً، وفي التلبية تربيةً، وفي الطواف تربيةً، وفي السعي تربيةً، وفي رمي الجمرات تربيةً، وفي الحلق أو التقصير تربيةً، وفي الصلاة في الحرم تربيةً، وفي الاعتكاف تربيةً، ومن هنا فإن الحج مدرسة تربوية متكاملة؛ تربِّي المسلم تربية عقائدية وإيمانية وأخلاقية... إلخ.

وهذه هي مقومات النجاح لأي منهج تربوي: أن يتوفَّر لدى المتلقي له الرغبة في الإلمام به واستيعابه، وأن يتأثر به في أفعاله وتصرفاته، مع وجود منهجٍ تربوي مناسب وبيئة تربوية مُعِينة وصحبة صالحة تأخذ بيده، وهذا ما يقع للمسلم في رحلة الحج.
ومن صور مدرسة الحج التربوية أنها:
مدرسة للتربية الإيمانية
فمن خلال الحج تتحقَّق التربية الإيمانية وتتكامل وتبدو معالمها من خلال ما يلي:
- التربية على تعظيم شعائر الله: وهي من أعظم غايات الحج؛ حيث يتربَّى العبد على تعظيمها وإجلالها ومحبتها وإكرام أهلها والتحرُّج من المساس بها أو هتك حرمتها، ويزداد التعظيم والخضوع في قلب المسلم انطلاقًا من قوله جل شأنه في ثنايا آيات الحج: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾ (الحج)، وتلك هي البداية؛ أن يعظِّم شعائر الله في رحلة الحج، ثم يتواصل في تعظيم شعائر الله بعد عودته، لتكون حياته كلها وفق منهج الله وشرعه، ويتربَّى أيضًا على تعظيم حرمات الله من خلال امتثال قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ (الحج: من الآية 30).

- التربية بالتذكير باليوم الآخر: في مواقف تحصل للحاج؛ منها (خروجه من بلده ومفارقته أهله يُذكِّر بالفراق حال الخروج من الدنيا- التجرد من المخيط وترك الزينة يُذكِّر بالكفن وخروج العباد من قبورهم حفاةً عراةً غرلاً- والترحال والتعب والازدحام مع العطش والعرق يُذكِّر بمواقف عرصات القيامة وحشر العباد)، ويعجب المرء حينما يجد الكثير من المسلمين- خاصةً من غير العرب- من يأتون من ديارهم ومعهم أكفانهم، يغسلونها بماء زمزم تبركًا به واستعدادًا للقاء الله، ومن ثَمَّ يعود المسلم بعد رحلةِ الحج، ولديه إقبال على الله ورغبة في لقائه.

- التربية على الإكثار من ذكر الله تعالى: الحج شعيرة يملؤها الذكر ويمنحها مزيدًا من الجلال والبهاء؛ قال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة: من الآية 198)، وفي الحديث "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله في الأرض"؛ فالإكثار من ذكر الله من شيم وصفات المؤمنين، وما أروع حداء المؤمنين وهم يجهرون بالتلبية مع كل صعود وهبوط في نواحي مكة!، وما أروع تكبيرهم وتهليلهم لله عز وجل في منى وعرفات والمزدلفة وعند المشعر الحرام!، إنه ذكر الله الذي به تطمئن القلوب.. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾ (الرعد).

- التربية على اجتناب الذنوب: يقول تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (البقرة: من الآية 197)، فهي دعوة وتربية على أن يتجاوز المسلم المعاصيَ ويتجنبها ولا يقع فيها أثناء أدائه لمناسك الحج، ومن ثَمَّ فهي تربية له لمواصلة ذلك بعد العودة.

- التربية على الاجتهاد في الطاعات واستغلال الوقت: وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: من الآية 197)؛ فالمسلم في الحج يُحسن استغلال وقته في طاعة الله ما بين طواف وسعي وصلاة وذكر.. إلخ، ويتربَّى على حسن الاستفادة من وقته فيما يعود عليه بالخير والقبول عند الله.

- التربية على الدعاء ولذة مناجاة الله: فقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "خير الدعاء دعاء عرفة"، وفي الحج مواضع مقرونة بإجابة الدعاء؛ فضلاً من الله ومنةً؛ منها: الطواف، الصفا والمروة، يوم عرفة، عند المشعر الحرام، بعد رمي الجمرات، علمًا بأن الحج كله سوق رائجة رابحة للدعاء والابتهال والاستغفار، وهو تعويد للمسلم على اللجوء إلى الله دائمًا، وفي كل وقتٍ وحين، والأنس بمناجاته سبحانه وتعالى.

- التربية على الاستقامة بعد الحج: فالمسلم العائد من الحج يجد نفسه ملزمًا بالمحافظة على بقاءِ صفحته بيضاء بعد أن غفر الله له في الحج، وفي ذلك قال الحسن البصري رحمه الله: "الحج المبرور أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، ويشهد لذلك قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17)﴾ (محمد).
مدرسة للتربية الأخلاقية
فالحج مدرسة تربوية تقوم على تقويم الأخلاق وتهذيبها، وقد شُرع الحج لتقويم الكثير من الأخلاق ومنها:
- التربية على العفة وكظم الغيظ وترك الجدال: كما في قوله عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (البقرة: من الآية 197)؛ فالرفث هو الجماع ودواعيه من قولٍ أو فعلٍ، والجدال أن تجادل صاحبك حتى تُغضبه ويُغضبك؛ فهي صورة من صور غرس القيم في نفس المسلم، وترك المنهي عنه.

- التربية على اللين والرفق والسكينة: كما قال عليه الصلاة والسلام حين سمع جلبةً وصخبًا في الدفع لمزدلفة: "أيها الناس.. عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع"، والإيضاع هو الإسراع؛ فالحاج يتربَّى في نسكه على أن يكون صاحب رفق وسكينة، وخشوع وطمأنينة؛ ليعتاد ذلك كله في حياته كما هي في عباداته.

- التربية على إنكار الذات: والاندماج في الجماعة في اللباس والهتاف، وفي التنقل والعمل؛ فإن النفس تذوب في هذا الكيان البشري الواحد، ويصبح الكل يتكلم بلغة واحدة وخطاب واحد وهتاف واحد وشعار واحد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فيتولد في النفس المسلمة شعور بأنه جزء من هذا الكيان، ويتضاءل حظ النفس وحب الأنانية في ذاته، فيكون مسلمًا اجتماعيًّا؛ يعيش لأمته ويحمل همومها ويتكلم بلسانها ويهب نفسه لها.

- التربية على التواضع: يستشعر المسلم ذلك حين لا يمتاز أحد عن أحد، ولا تكون لحاج خاصية أو ميزة عن غيره من الحجاج في الأمور الدينية؛ فالأركان والواجبات والمسنونات متماثلة في حق الجميع، فيتربَّى المسلم على روح التواضع الجم، ويحقِّق قوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: من الآية 54)، ويعيش سعيدًا بانتمائه لهذه الحشود المؤمنة، ويُغلِّب روح التواضع على الكبر والعجب بالذات.

التربية على الصبر بأنواعه: صبر على مشقة الطاعة، وما أحلاها من طاعةٍ يصبر المسلم عليها رغم مشقتها ويسعد بأدائها!، وصبر عن المعصية، خاصةً مع التزاحم وكثرة الناس، فيُجنِّب نفسه الوقوع في المعاصي وما أكثرها وقت الحج!؛ بدءًا من تدافع وإيذاء للمسلمين، ونظرة هنا أو هناك، وصبر على قضاء الله الذي يعرض للحاج، من ابتلاء أو تمحيص أثناء رحلة الحاج، وفي ذلك تعويد له على الصبر على قضاء الله وقدره في حياته بشكلٍ عام.

- التربية على البذل والعطاء: فالحج عبادة بدنية مالية، وفي المشاعر تتسامى المشاعر فيبذل المسلم من ماله لسقيا الحجاج أو تفريج كربهم وسد حاجتهم، ونجد في الحج تسابقًا عجيبًا لهذا البذل والجود والكرم، وفي التاريخ نماذج رائعة؛ فهذا عبد الله بن المبارك الذي كان يحمل معه في رحلة الحج أكثر من ثلاثمائة يخرجون من بلدته "مرو" وعلى نفقته الخاصة، وغيره الكثير، وما نراه اليوم في الحج يؤكد تلك المعاني، من التسابق في البذل لإطعام الحجيج وإكرام وفادتهم.

- التربية على تحقيق معاني الأخوة والمحبة والتآلف: خاصةً حين يكون الحج مع رفقةٍ وصحبة، وتتلاقى الأنفس وتتعارف، وتأتلف القلوب والأرواح، وتتحقق زمرة القلب الواحد في أمة الإسلام في رحلة الحج وتتجسد في أروع صورة؛ فالحج مؤتمر إسلامي عالمي كبير؛ تتحقق فيه الوحدة الإسلامية بأروع صورها.
مدرسة للتربية الجهادية
وتُعَد فريضة الحج من أقوى الوسائل المُعِينة على مجاهدة النفس؛ مما يسهل معه قيادتها وتوجيهها، ومن الصور التي تبرز لنا من خلال الحج في هذا المجال:
- التربية على الاستسلام والخضوع لأمر الله والمجاهدة فيه: ويكون هذا بإيثار محبة الله ومرضاته على رغبات النفوس وشهواتها؛ مما يقود إلى مرتبةٍ أعلى ومنزلة أسمى حين لا يكون للعبد إيناس ولا استئناس إلا بما يُرضي الرب سبحانه، وحينها يبلغ إيمان المسلم درجةً عاليةً عزيزةً بفضل الله وتوفيقه، وينتصر على نفسه، ويخضع لشرع الله.

- التربية على صدق العزيمة وقوة الإرادة: فمن حج البيت فقد أرغم هواه وغالب لذة الراحة والدعة ومضى لأمرٍ يعلم مشقته ولا يستمع لقول القائل من المثبِّطين، وهكذا يجب أن يكون المسلم في أموره وحياته؛ يجاهد نفسه ويحملها على أن تكون صاحبة إرادة قوية لا يتطرَّق إليها ضعف.

- التربية على تحمُّل تبعات الطريق ومواجهة الصعاب: من خلال تحمُّل مشاق رحلة الحج وما فيها من غربة عن الأهل والأرض.

- التربية على تحمُّل تبعات الخطأ: فالمسلم مطالب بأن يكون شجاعًا في الاعتراف بالخطأ إذا وقع منه، وهي أعظم درجات الشجاعة، ويظهر ذلك جليًّا في وجوب الفدية على مَن ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام أو ترك واجبًا، ولا شكَّ أن الشعور بالمسئولية وتحمُّلها علامة نضج وكمال الإنسان، وهي غاية من غايات التربية الناجحة؛ فالحج تربية على ذلك الأمر.

- التربية على هَجْر العاديات وتغيير المألوف : فالعاديات ما اعتاده الواحد من سكون ورخاء، ويكون هَجْرها بقوة التعلق برضا الله سبحانه وسلعته الغالية، وهي منزلةٌ عاليةٌ لا يصلها المسلم إلا بمجاهدة قوية لنفسه وشهواتها، والحج يكون فرصة لتحقق هذه المجاهدة، ومن ثم الاستمرار عليها بعد ذلك.
مدرسة للتربية الحركية- التربية على النظام والانضباط: فللمناسك ترتيب ونظام لا يقبل الإخلال بهما؛ وكم في الناس من مزاجية لا تنضبط إلا بالحج!؛ فالحج يعوِّد الأخ المسلم على أن يكون منضبطًا في أموره، حريصًا على الدقة والنظام، مراعيًا التسلسل الطبيعي للمناسك، والانضباط التام بكل ما تحويه تلك المناسك من أعمال، فلا يزيد ولا ينقص، ولا يُقدِّم ولا يؤخِّر، بل انقياد وانضباط تام.
- التربية على استشعار وتحمُّل المسئولية: فالحاج هو المسئول عن إتمام المناسك لا غيره، فيتربَّى على استشعار المسئولية الفردية، وتتولَّد لديه الذاتية والإيجابية للقيام بكل ما تتطلبه منه أعماله الحياتية والدعوية بشكلٍ عام.

- التربية على الجماعية في الأداء: فقد يكون في صحبة أو رفقة فيتولَّى بعض أمرهم، فيتاح له من التطبيق العملي والتدريب المكثَّف ما لم يكن متاحًا له بغير الحج، فيتربَّى على حسن القيادة وحسن الخدمة لإخوانه الحجاج معه، فيشعر بالسعادة والسرور إذا قدَّم خدمةً لغيره من الناس، فيساعد المحتاج ويحمل الضعيف ويواسي المنكوب ولو بالكلمة الطيبة، ويبادر دائمًا إلى فعل الخيرات.

- التربية على وجوب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فاجتماع الناس بهذا العدد في الحج فرصة سانحة لدعوتهم وتصحيح مفاهيمهم وتقويم سلوكهم وعرض الدعوة عليهم، وقديمًا روي عن أحد الصالحين: "كنت أحج مع سفيان الثوري؛ فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا"، وقد كان الإمام البنا ينتهز فريضة الحج ليبلِّغ دعوته للحجيج من كل مكان؛ فكان يعرض دعوته وينشر رسالته، حتى يفتح الله على يديه، ويجد مَن يبايعه على هذه الدعوة المباركة، حتى يوصِّلها إلى العالمين، وقد كان بفضل الله.

تلك بعض الصور البسيطة التي تظهر لنا من آثار مدرسة الحج التربوية، وإلا فالدروس والعبر كثيرة، ولا تقف عند شكل ما، بل تمتد لتشمل حياة المسلم كلها، وحياة المجتمع من حوله، فتكون التربية من خلال فريضة الحج تربيةً ذات أثر إيجابي في الفرد والمجتمع؛ ولذلك كانت رحلة الحج هي رحلة العمر، والتي بها يبدأ عمر الإنسان من جديد، ويتجدَّد لديه الإيمان والإسلام، ويقوى فيه العزم والإرادة، وينشط فيه الحرص على الطاعة والعمل الصالح، فما أروعها من فرصةٍ للمسلم كي يغيِّر من نفسه ويرتقي بها!، وما أحوج المربِّين إلى الاستفادة من تلك الفريضة لتحقيق أهداف العمل التربوي من خلال رحلات حج جماعية، قد توفر الكثير من الوقت والجهد للوصول إلى الهدف المنشود في إصلاح النفوس وتربيتها وتزكيتها؛ لأن المسلم من خلال تلك الرحلة المباركة يكون قد عايش عناصر العملية التربوية كاملةً؛ (من استعداد نفسي وبيئة صالحة وصحبة صالحة ومنهج تربوي ووسائل تربوية)، وتفاعل معها وتأثر بها، وبالتالي كان ولا بد أن يظهر الأثر بعد إتمام رحلة الحج المباركة في شخصية المسلم؛ فيُعينه الله في إحداث هذا التغيير الشامل في النفس ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ 17(محمد)، ويُعينه بأن يجعل صفحته السابقة بما حملت من آثام ومعاصٍ وذنوب كأنها لم تكن؛ فيبدأ المسلم في صفحة جديدة مع الله ومع النفس ومع الناس والمجتمع من حوله.

ليست هناك تعليقات: