إعداد: السيد شعيب.
بلغت دعوة الإخوان المسلمين شأوًا عظيمًا في أربعينيات القرن العشرين، جعلها محط اهتمام الساسة والباحثين والمفكرين في العالم، فضلاً عن الحكومات والقوى السياسية العالمية.
من أبرز الكتاب والصحفيين العالميين الذي كتبوا في شئون الإخوان العديد من الكتابات، وحبروا العديد من المقالات الكاتب والصحفي الأمريكي روبير جاكسون، صاحب الكتاب الشهير (حسن البنا الرجل القرآني)، والذي ترجمه الأستاذ أنور الجندي إلى العربية، والباحث الأمريكي ريتشارد ميتشيل الذي حصل على الدكتوراه في دراسته القيمة (الإخوان المسلمون).
والكاتب الإيطالي الدكتور أتريكو أنسياتو، السياسي والبحَّاثة في الشئون الشرقية والإسلامية، والذي يكتب في مجلة "إسكامبي انتركوننتالي" التي تصدر من روما باللغات الإيطالية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية وتهتم بالشئون العالمية.
ولقد كتب الكاتب مقالاً بعنوان (بعث جديد للإسلام صدى دعوة الإخوان المسلمين في جنوب ووسط وغرب أوربا) وترجمه عن الإيطالية الدكتور محمد الحسيني، مدير مكتب الإخوان المسلمين في إيطاليا، ونشرته مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية في الأربعينيات، وقد آثرنا أن ننشره هنا لفائدته الجمة.
بعث جديد للإخوان بالإسلام
تتمخض الحرب لا سيما إذا كانت طويلة عصيبة عن فورة في المشاعر والآراء ويقظة في الوعي وتوجيه للقوى، فإذا اختلت القيم الروحية ونفرت الغرائز عن وازعها من جانب تحفزت من جانب آخر الأصول المحركة تثبت كيانها وتتهيأ للنضوج وتثبت للسيادة والتوسع والانتشار فوق حطام ما تفيض عنه الملاحم من الأسى والشجن، ولنلاحظ أن هذه الأصول المحركة رغم ما قد يعتريها أحيانًا من الجمود تظل حية في المجلات الروحية والثقافية متجلية في بيئتها التاريخية والجغرافية السياسية التي منها خرجت وعليها درجت. وإن هي إلا ثمرة التدافع المتزن بين قوة التقاليد والسنن وقوة التطور.
هذه الأصول المحركة للقوى تجد دعامتها في تضاعيف مدنية ذات طابع واضح المعالم مرسوم الحدود، وتستمد زادها من فيض مبدأ عام شامل، وإن هذا المبدأ العام هو مصدر هذه المدنية ومميزها عن غيرها.
نهضة الإسلام
ولقد أدلت إلينا هذه الحرب الأخيرة (الحرب العالمية الثانية) بنهضة للإسلام، وأنها يقظة عالم يموج بثلاثمائة مليون نفس، وأنها بعث جديد لمدنية رفيعة أصيلة عريقة.
ولئن كانت مشخصاتها ومميزاتها جديدة إلا أنها لا تحيد أو تنفك عن السنن التقليدية، هي وثبة وافرة القوى زاخرة بالأعمال لها قدرها وخطرها في العالم الإسلامي عامة وفي إقليم البحر المتوسط خاصة.
أما باعث هذه النهضة والنافخ فيها من روحه، فحركة سياسية تستوحي من الإسلام غاياتها ووسائلها، هي حديثة عهد بالوجود ولكنها تنحدر من أصول تضرب في أعماق القدم، هي حركة الإخوان المسلمين التي تؤيدها جموع حاشدة من المريدين والأتباع من مصر إلى باكستان.
انبعثت هذه الحركة منذ عشرين عامًا بالإسماعيلية ثم لم تلبث أن شاعت في القطر بأسره، ثم غزت العالم الإسلامي كله، وها هي اليوم راسخة القدم في كل مكان منه.
ولا تخالن أن الجوهر الروحي والسياسي لهذه الحركة لا يعدو المهام السياسية المنوطة بالأحزاب، أو أن الحركة تقف عند حدود القطر المصري، بل إنها وحي ذو مشخصات عالمية تتجاوز نطاق الدولة، فهي وإن كانت مصرية المنبت إلا أنها رغم ذلك عربية إسلامية في أصولها وطوابعها ومادتها ومناهجها.
وجدير بالسياسيين والدارسين والناشرين والمهتمين بالبحوث الإسلامية أن يوالوا اهتمامهم بهذه الحركة.
فلقد دل الإسلام على حيوية دائبة وعلى ما تهيأ له من أسباب التطور والمساهمة كقوة عالمية في تطور الإنسانية كافة.
ولا يتمادى بنا القول إذا اعتقدنا مخلصين أننا تجاه حركة تسجل في تاريخ الإسلام استهلال عهد بكر، وتنسج بعزمتها وقائع تاريخ جديد، عقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وسقوط الخلافة العثمانية قامت في مصر والهند حركات قومية تفصل بين الوطنية والدين، وبذا فتحت هوة بين الإسلام والوطنية، مصدرها وَهَن الإحساس الديني وهجر السنن والتقاليد والتهافت على تقليد الأجانب، ونقل آثار منهجية مغايرة في مناحي التفكير والآراء إلى بيئة ليست بمنجمها ومنبتها، في حين يدعو الإسلام إلى حب الوطن، إلا أن اقتباس الآراء والأساليب الأوربية وعدم تمثلها تمامًا قد جر إلى انتحال نوع من الوطنية الضارة المتعصبة.
ومجمل القول أن التحول عن السنن وتجريد العمل السياسي عن مادته الدينية قد أدى بالوطنية إلى شعوبية جافة، بفعلها تولَّد الغل والضغن كما حدث بين الفرس والعرب.
انهيار الوفد
يتجلى مما أسلفنا سقوط الأحزاب الوطنية كالوفد، وقد كان أقوى الأحزاب المصرية ثم لم يلبث أن عانى انشقاقات عديدة وتمزقت أوصاله، وصار شُعَبًا عديدة نشب بينها صراع مستعر، على الرغم من اشتراكها جميعًا في المبادئ.
ولقد ملَّ الشعب الجدل والمعارك السياسية، فاتجهت جموعه بجمهرتها قدمًا نحو الإخوان المسلمين، ومن ثم ندرك هذا النضال المشبوب القائم بمصر بين الأحزاب القديمة وحركة الإخوان المسلمين الفتية القوية إلى حد أن الأحزاب القديمة تسعى جهدها إلى التملص من إجراء الانتخابات؛ خشية تصويت إجماعي ونصر محقق للإخوان المسلمين.
ولقد أبدى الزعماء القدماء عجزًا في تربية الشعب والسير به مع أطوار الزمن وتيار التاريخ، فلا عجب أن خلفهم اليوم ظهريًّا وانفض عنهم.
ولا نعتقد أن ما التمس من الوسائط الديكتاتورية التي تفعل فعلها في النظام المصري قادرة على منازلة أو اعتراض طريق حركة حديثة كهذه، سوف لا تخرج عن الميدان إلا قاهرة منتصرة لا يثنيها عارض ولا ينخذل لها عزم.
وإذا قلدت الأحزاب الوطنية النماذج الأوربية أغفلت في حسابها العامل الديني، وهو قوام الإسلام وملاكه، مع أن هذا العامل يزكي نفوس الإخوان المسلمين، وينفخ من روحه في حركتهم، فهم يسيرون حقًّا مع الإسلام من جديد جنبًا إلى جنب، وهم يجعلون الإسلام قبلتهم، وهم يرصدون للإسلام جهودهم ومساعيهم.
حركة الإخوان المسلمين
العامل الديني جد ضروري للعالم الإسلامي، إذ إنه يسود مناحي حياته الروحية والاجتماعية والثقافية، وهاكم الشيخ حسن البنا رائد حركة الإخوان المسلمين، فإنه وإن كان معلمًا متواضعًا في بادئ الأمر إلا أنه اشتهر كرجل عقيدة وإيمان، قد اجتمع له إلى كل هذا همة ولسان مفوه، ومضاء عزم، وكان مُدْبِرًا عما يعود عليه بالمصلحة، مقبلاً على ما فيه خير للشعب.
أدرك الرجل باعتماده على الدين وتمسكه بالسنة من جلالة المحل ما لم يدركه غيره، وحسبك أن شباب البلاد وأعلام الأزهر، وجمهرة الشعب تلتف حوله وتظاهره وتناصره.
ولقد جعل الرجل من حركته قوة لها خطرها وقدرها، وأصبحت جريدة الإخوان المسلمين ترجمان العالم الإسلامي كله، وأضحى نفوذها ورواجها عظيمًا داخل مصر وخارجها، قد تنزهت عن الجدل والمهاترات، وتبارت في الإجادة والإحسان حتى لا يداني شأنها من الصحف إلا النادر، وما برحت تستخلص مبادئها من نبعها الروحي الفياض حتى استوت لها أصول وافرة تقف راسخة كجموع مصفوفة متراصة من الخلق.
وبعد؛ فحركة الإخوان المسلمين أجل وأرفع من أن تكون حزبًا سياسيًّا فحسب، فإن برنامجها ومساعيها تشمل حياة الأمة المحمدية على مختلف وجوهها.
وقد رفع الشيخ حسن البنا برنامج الإخوان المسلمين ومبادئهم في مذكرة مفصلة تجلي علينا اهتمام الحركة في الميدان الاجتماعي بمصير الطبقة الفقيرة، وتطالب بحقوق 60% من المصريين يعيشون في الدرك الأسفل من الحياة البدائية، قد ملكت ضروب الفاقة عليهم كل سبيل، في حين أن حياة البلاد الاقتصادية تحتكرها ثلاثمائة وعشرون شركة أجنبية.
فالعودة إلى الإسلام أعظم نصر وأجل ما وُفِّقت إليه حركة الإخوان المسلمين، وهذا ما يضفي عليها طابعها ويمدها بالقوة.
والحق أن المسلم بقدر ما يتمسك بدينه ويعمل بأحكامه، بقدر ما يصير مناهضًا متسامحًا مجافيًا للتعصب والبغي والدس. وما نذكر ليس بجديد إنما تؤيده شواهد التاريخ ومآثره.
وقد عالج الشيخ حسن البنا في مذكرة مرفوعة إلى الملك فاروق مسألة الأقليات والعلاقة بالأجانب، مستعينًا في حل هذه المادة المعقدة العسيرة الدقيقة الخطيرة بأحكام الشريعة التي تكفل للأجانب والأقليات الدينية والقومية كل حقوقهم وتصون كرامتهم وفق العهد، والعهد في الوقت نفسه مقياس لتنظيم العلاقات بين الذات الإلهية والبشرية، ومعنى هذا إذن تثبيت مبادئ الاعتقاد السليمة الحرة وصون حريات الإنسان وتقوية الروابط القائمة بين الشرق والغرب لا قطع وشائجها، ثم إقامة جسر جديد راسخ الدعائم بين عالمين يسيران قدمًا في مداريهما.
نحو الخلافة
يثير مقال الخلافة في نفسي رضى عميقًا وذكريات عزيزة أستميح القارئ عفوًا إذا استطردت في ذكرها، فمنذ عام 1901م وأنا أدافع عما ينادي به الإخوان المسلمون المكللين بالنجاح في دعوتهم من المغرب الأقصى إلى باكستان، بما دبجت به في مجلة "النادي" الإيطالية العربية التي أنشأتها بالقاهرة.
ونشرت جريدة عرفات المصرية في عددها الصادر بالقاهرة في 26 مايو 1904م كلماتي التالية بعد أن عقبت عليها بالتأييد:
أفضى بي التفكير بعد سلسلة ملاحظات دقيقة على الآثار العملية لاتباع أحكام القرآن أو هجرها إلى أن الإقرار بالفكرة الإسلامية الكاملة أساس المدنية العربية وضرورة لازمة لترقي الشعب وتقدمه.. وإنه لمن صالح الأمم المتمدينة نفسها أن يعود الإسلام إلى مصادره الصافية راسخ القدم كما كان شأنه في سابق العصور.
وإني على يقين كما أسلفنا من أن المذهب الإسلامي الصحيح الذي يدعو إليه الإخوان المسلمون هو المثابة الوحيدة المهيِّئة للعالم الإسلامي بأسره لتقويم حب الوطن مما يكفل الحرية لكل شعب، ويعمل في الوقت نفسه على تآخيها في ظل جامعة الإسلام العظمى.
وما عدا هذه الحقيقة التي يمثلها الإخوان المسلمون ويصنعونها فزور وبهتان، وتدافع وتناحر، وكفاح عابث لا جدوى منه، وجري وراء اللبانات الشخصية والشهوات الزائفة.
-------
* المراجع:
مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد 180، السنة السادسة 18 ربيع الثاني 1367هـ 28 فبراير 1948م ص 13.
مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد 189، السنة السادسة 25 ربيع الثاني 1367هـ 6 مارس 1948م ص 6 ، 20.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق