بقلم: م محمد كمال
ما زالت مدرسة النقد السياسي المصرية بعد الثورة هي التي كانت في عهد مبارك
وبنفس تحزباتها؛ فالذين يتخذون الإعلام مجرد مهنة أو وظيفة يتكسبون منها عيشهم ما زالوا موجودين.
والذين يتخذون الإعلام سلمًا لإرضاء جهة سلطوية أو مالية ما زالوا موجودين.
والمستقلون الذين ينحازون للحقيقة ولا يصدقون إلا عقولهم ما زالوا موجودين.
كما أن أباطرة الحرب، وممثلي مراكز القوى في البلد أو (خارجها) ما زالوا موجودين.
ليس ذلك فحسب، ولكن الجميع ما زال محتفظًا بنفس مواقعه وآلياته ومنطلقاته ولغته.. وعليه، فالإعلام مرشح ليظل شوكة في جنب المشروع الوطني، ما لم يصله مبضع جراح من أهله، وسيظل يحصن خنادقه.... إما لحماية مصالح مجرمة قانونًا، أو لتعويق مشروع التقدم، لمجرد أن طليعته إسلامية، فلا يعارضون من منطلقات سياسية تنافس على رضا المواطن، ولكن المنافسة ستكون على إفشال المشروع الوطني وفض الجماهير من حوله.
فلم يحدث أي تطوير إذن
إلاَّ أن الجميع أدخل مفردة إعلامية جديدة اسمها (الثورة)، لمجرد ذر الرماد في العيون، ثم نراهم يتعاملون مع "الثورة" نفسها على أنها (حدث إعلامي).. نعم مجرد (حدث عابر)، ولا يُستثنى المستقلون ولا المتحزبون من المعادلة.
ونلفت النظر إلى أن المستقلين باعتبارهم المعارضة النزيهة للنظام البائد، قد واجهوا الاستبداد على مدار ثلاثين عامًا، فاكتسبوا لغة عدائية مستحقة لهذا النظام، وتركزت كل خبراتهم في إظهار عواره، وهذا مفهوم ومقدر، أما المشكل العملي أمامنا؛ فهو أن هؤلاء الكرام أيضًا لم يخرجوا من أجواء المعركة الضروس، وليس في مقدورهم- على ما يبدو- أن يتخذوا موقفًا مواليًا للحاكم العادل بمبررات عديدة تبدو مقنعة، لكن الحقيقة أن المسألة نفسية في جانبها الأهم، كما أنها نقلة حادة تحتاج وقفة فاصلة..... لكن الأحداث المتلاحقة لم تترك لأحد الفرصة ليأخذ قرارًا فرديًّا، بعد أن اجتهد الجميع (وأرهقوا) في بناء قرار جماعي لمناصرة "الثورة".. والحقيقة أن الثورة ستظل كيانًا وهميًّا ما لم تكن لدينا الشجاعة في إنزالها على الواقع في صورة (مشروع وطني).
لقد أصبح لدينا مؤسسة رئاسية تحظى بقبول عام، قدمت أوراق اعتمادها بسرعة هائلة، وبتوفيق مشهود، والمؤكد أن هذه قاعدة انطلاق جبارة تكفي للانتقال إلى تحقيق الحلم الوطني لثورة الشعب.
لا ينبغي- إذن- أن يستمر الفرقاء في السير امتدادًا لِما كان عليه الواقع قبل الثورة.
وفي تقديرنا أنه ينبغي علينا مواجهة هذا الواقع على محورين:
المحور الأول: محور المساندة فالأحرار والمستقلون كانوا دائمًا بعيدًا عن التحزب، والاستقلال كان دائمًا محلاًّ لتوقير صاحبه واحترامه، وكان المستقل الحقيقي قبل الثورة، هو الذي يتجرأ ويقول للمخطئ أخطأت، وأجرَؤهم من كان ينصف "الإخوان"؛ باعتبار حالة الرعب التي زرعها النظام السابق في التربة السياسية والإعلامية المصرية، وكان المستقلون أيضًا ينتقدون "الإخوان" ويعتقدون أن هذا النقد ترشيد لهم، وليس هجومًا عليهم كهجوم النظام وإعلامه، وكانت هذه نقطة خلاف لكنها لم تتحول أبد إلى شقاق.. لكن المشكلة أن هؤلاء المستقلين ما زالوا يقفون نفس الموقف السلبي من "الرئاسة" رغم الهجوم الكاسح من الآخرين عليها، بكل أطيافهم وأغراضهم، وما زال المخلصون يعتقدون أن النقد وإظهار مشاكل البلد، أفضل من ممالأة "الرئيس" وخير له وللوطن حتى لا يتحول إلى (فرعون) جديد.. هذا ما يقولونه! وبسبب ذلك ستقف "الرئاسة" عارية الظهر، منقطعة التواصل الإقناعي مع الجماهير، في وقت توسدت السلطة وهي ليست مسئولة عن الخراب الذي تواجهه، لكنها قبلت المهمة بشرط التعاون الجماعي، غير أنها لا تجد- حتى- من يفسر قراراتها للناس سوى بالنقد والتشويه، ولا يمكن مدح قرار إلاّ إذا كان عليه إجماع وطني من الكافة.. ولا تستطيع مؤسسة رئاسية في العالم كله أن تعيش بين مواطنيها دون صوت إعلامي رصين متفهم يتبنى حشد المواطنين لتدعيم المشروع الرئاسي، خاصة ونحن نتكلم عن حالة "ثورة" وإحلال نظام جديد محل نظام بائد، وهي أصعب لحظات الأوطان.. وإذا ظلت الأقلام المستقلة ساكنة في مدينة
(لا) كما اختارت بحق ضد الاستبداد، فكيف يمكن للرئاسة أن تدشن مشروعًا قوميًّا؟
هل بمجرد موافقة هذه الأقلام أو إبدائها للرأي وإسدائها للنصح ستكون قد أدّت ما عليها؟
لا نظن أن هذا كافٍ في ظل هذه التحديات الهائلة.. ومن هنا فإن الانتقال من مربع "الاستقلال" إلى "مربع" "المساندة" هو ما ينبغي أن يفكر فيه قادة الرأي الذين احترمناهم، ونحن نعلم أن لهذا ثمنًا من راحتهم ومن أوضاعهم المجتمعية، لكننا نظن أنه أصبح واجبًا وطنيًّا يستدعي هؤلاء لكي يغيروا لون الحبر في أقلامهم.
المحور الثاني: محور المواجهة
معسكر العداء للإسلاميين ما زال متكاتفًا، ومسيطرًا على خنادق المال والإعلام، ونتوقع أن يزداد ضراوة كلما تأكد من أجواء الحرية التي سينشرها النظام القائم، لا سيما أنهم لا يجيدون العمل النظيف، تمامًا كضباط أمن الدولة الذين مارسوا عملهم عبر سحق المواطن ولم يشغلوا أنفسهم بالترقي التكنولوجي أو المعرفة الأمنية التي تحمي الوطن والمواطن معًا.. فهم منطقيون مع أنفسهم لأنهم يخوضون معركة وجود، وهذا ما يجيدونه.... يجيدون تشويه "الإخوان" فينسحب هذا إلى تشويه "الرئاسة"، ويجيدون تشويه الإسلاميين فينسحب هذا إلى "الإخوان"
وإلى
"الإسلام"، ويجيدون اللعب على عقول الجماهير، وبالتالي فستظل سلعتهم رائجة، وستظهر آثارهم في كل موقف فاصل، سواء في الانتخابات أو المواقف الوطنية التي ستتخذها الرئاسة، وهؤلاء يستطيعون لي عنق الكلام حتى يظلوا في الصورة، وهم لا يهتمون بما يلحق من سمعتهم ولا يهمهم تناقض مواقفهم، فهم نجوم ويعيشون على الشهرة، وسخونة الأجواء حولهم تزيد من أسعارهم ولا تطفئ شموعهم.
ومن هنا فلا يمكن أبدًا ضبط إيقاع العملية الإعلامية، وإجبار هؤلاء على الانصياع لمواثيق الشرف الإعلامية، إلاّ إعلاميون مثلهم، لهم من الخبرة والاحترام ما يجعل كلمتهم أحدُّ من السيف، وأشدُّ من المطرقة، على رؤوس هؤلاء.. لِذا فإنه ينبغي تعديل موقف المستقلين وأصحاب الرسالة من مجرد "الاحتقار والتجاهل"
لهذه الفئة إلى "المواجهة والتصدي"، وتصدير (خطر) إعلاء المبادئ إلى هؤلاء!!
وتهديدهم بعودة الصدق والتجرد إلى العملية الإعلامية!! فأهل مكة أدرى بشعابها.
ولست مع الأصوات التي تطالب "الإخوان" بإعلام يواجه جبروت هذا الإعلام الساقط، ولكن الأقوم أن تكون حركة الإصلاح من الداخل، وعلى مستوى الدولة كلها، ثم بعد ذلك فليكن لكل فصيل إعلامه، أما أن نطلب من "الإخوان" مواجهة عشرات الفضائيات ومئات المذيعين المشاهير وقواعد وخبرات تقنية إعلامية بالآلاف، وأموالاً بعشرات الملايين وعشرات الصحف بكل كوادرها وكتابها.. فهذا ما لا يستطيعه "الإخوان"
، كما أنه ليس مهمتهم وحدهم، وسيظل الجميع يعيشون مجتمع ما قبل الثورة إذا ظللنا نفكر بهذه الطريقة العقيمة.
ولست هنا أطلب من المستقلين وأصحاب الكلمة الشريفة أن يدافعوا عن "الإخوان"، ولكن أطالبهم بالقيام بدورهم في ضبط عجلة الإعلام، أما موقف كل إعلامي سواء مع الجماعة وحزبها أم معارض لها فهو ملكه، والعملة الجيدة ستطرد العملة الرديئة في نهاية الأمر، والمتساقطون أمامنا نراهم واحدًا وراء الآخر... فكيف لو بدأت مدرسة النقد السياسي الجديدة على هذه الأسس الجديدة، لتأخذ طريقها في ضبط إيقاع الكلمة، وحشد الجماهير حول مشروع بناء الوطن، لتنطلق المسيرة بشرف، وتصيب أهدافها بوطنية، وتدوّي في آذان الجميع بصدق العمل؟!.
--------------------------
Mohamedkamal62@ymail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق